المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (100)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (100)
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [البقرة:189].
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الأهلة جمع هلال، وفعله هَلَّ وأَهَلَّ، بمعنى رفع الصوت؛ لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم إذا رأوا الهلال، يتنادونَ عليه ليشاهدُوه، ومنه سمي الشهرُ شهرًا، لشهرته بالإهلال به، ويطلق الهلال على الجزء المضاء لنا من القمر، على شكل قوس، عقب اقتران الشمس مع القمر وتعامده معها، بوقوعه متوسطا بين الشمس والأرض على سمتٍ واحدٍ، وقت المحاق أو الاقتران.
ويسمَّى القمرُ هلالًا في وقتين:
الأول: الليلتان الأوليان أو الثلاث مِن ولادة الهلال عقب المحاق، الذي يحجب فيه ضوء القمر على أهل الأرض تمامًا، في نهاية كلِّ شهر.
الثاني: ليلة السادس والعشرين والسابع والعشرين من الشهر، عندما يقترب القمر مِن المحاق.
وافتتاح الآية بـ(يَسْأَلُونَكَ) يدل على أن هناك من سأل النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل عن أمر الأهلة، وقد رُوي أنّ اليهود – أو غيرهم – طلبوا من بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوه عن اختلاف حال القمر، وزيادة نوره ونقصانه، فقالوا: ما بالُ الهلالِ يبدو دقيقًا كالخيط، ثم يزداد ضوؤه حتى يستوي بدرًا، ثم لا يزال يتناقص حتى يعود كما بدأ؟ فأجابهم الله عن شيءٍ آخر أنفع لهم، سألوا عن السببِ فأجابهم الله عن الحكمة، وكان الأجدر بهم أن يسألوا عنها؛ لأنها تعود عليهم بالفائدةِ في معرفة آجال عباداتهم ومعاملاتهم، في الحج والصيام وعُدد النساءِ، وهذا مِن الخروجِ بالكلام عن مقتضى الظاهر، وهو ما يسمى في علمِ المعاني بالأسلوب الحكيم، بأن يُتلقّى السائلُ بغير ما يطلب، ويُنزل سؤاله منزلةَ سؤالٍ آخر؛ تنبيهًا على أنه كان الأولى به أن يسألَ عنه، فأجابهم: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وذكرُ الحج في الآية يدلّ على تأخر نزولها عن آيات السورة، وأنها نزلت بعد الحديبية؛ لأنّ الحج تأخر نزوله، والمواقيت جمع ميقات: ما يوَقّت به الشيء، كالمقدار لما يقدر به، فإن كان ميقاتًا زمانيًّا فهو الزمانُ المقدرُ لأمرٍ مخصوصٍ، وإن كان مكانيًّا فهو المكان المحددُ لحالةٍ أو جهةٍ مخصوصة (لِلنَّاسِ) اللام للتعليل، أي: لأجلِ أعمالِ الناس التي تحتاجُ إلى توقيت، وعطف الحج على المواقيت مِن عطف الخاص على العام؛ اعتناءً به، إذ لا يصحُّ الحج إلا في وقتٍ مخصوصٍ، كما قال تعالى: (الحجُّ أشهرٌ معلومَاتٌ). والحج لغةً: مطلق القصدِ، وفي عرف الشرعِ: القصدُ إلى مكةَ لأداء النسكِ.
(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) (الْبِرُّ) البر كلمة جامعة لكل خير، وتقدم الكلام عليه في قوله عزّ وجلَّ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ)، وفي قوله هنا: (بِأَنْ تَأْتُوا) دخلت الباء في خبر ليس، لتأكيد نفي البر عما يفعلونَه مِن إتيان البيوت مِن ظهورها (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) المتصفُ بالبرّ حقًّا مَن اتّقى، أي: مَن فعلَ المأمورَ وتركَ المحظورَ (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) جملة طلبية، معطوفة على جملة (وَلَيْسَ الْبِرُّ) مِن عطفِ الأمرِ على النهي فـ(ليس البر) وإن كان لفظه خبرًا فهو في معنى الإنشاءِ، فهي في معنى: لا تأتوا البيوت من ظهورها، لأنه ليس من البر، وسببُ نزول الآية: أن الأنصارَ كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا دارًا ولا فُسطاطًا من بابهِ، ولا يتظللون بسقفِ بيتٍ، وإنما يدخلون مِن فُرجة مِن وراءِ البيت، ويتسورون الأسطح لأخذِ حاجاتهم من البيوتِ، ويرون ذلك عبادةً يزدادُ بها إحرامُهم برًّا، وقريش الذين كانوا يسمون الحُمس – أي: المتدينين – لا يرون ذلك في الإحرامِ، ولا يأتون البيوت من ظهورها، وكانوا أقربَ إلى الحنيفية، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا؛ كَانَتْ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: ) وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ()([1])، وبينت لهم أن هذا ليس ببِرٍّ، وإنما من الأمر المعكوس، الذي تحروه وحرصوا عليه، وليس لهم فيه نفع، ولا هو من البرّ، وتعلقهم به كتعلقِ قريش بالسؤالِ عمّا لا نفع فيه في شأنِ الهلال، وترك ما فيه نفعٌ، فالبرُّ لا يكون بما تهواه النفس مِن عاداتٍ معكوسة، ولكن البرّ طاعةٌ وتقوًى لله، وخوفٌ منه، ولا يكون ذلك إلا بما شرع وأحبَّ، وترك ما تعتاده النفس وتشتهيه من العوائدِ، إلى ما يحبه الله، فإذا ما فهم البرّ على هذا النحو السويّ، فمباشرة الأمور من وجوهها، وإتيان البيوت مِن أبوابها هو الأوْلَى؛ لأنّ خلافَه عبثٌ، لا مصلحةَ فيه (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تغيروا أحكامَه، وتخلطوها بعوائدكم، وتزعمون أنها برٌّ (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) إن كُنْتُمْ ترجون البرَّ والفلاحَ، فعليكم بهدي الإسلامِ، ولا تبتدعُوا في الدين شيئًا تخترعُه عقولُكم.
[1]) البخاري: 1803.