الرجوع إلى الحق شأن العلماء
الرجوع إلى الحق شأن العلماء
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد؛ فإنَّ العلماء هم صفوة الخلق بعد الأنبياء والرسل، قد رفَع الله شأنهم، وأعلى مكانتهم، فقال سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11].
ومن أعظم الأوصاف التي أوجبت للعلماء هذا المقام العالي، والمكانة السامية: رجوعهم إلى الحقِّ إذا تبيَّن لهم، وعدمُ الأنفة من الاعتراف بالخطأ وإظهار التراجع.
وقد ضرب أهل العلم في ذلك أروع الأمثلة، منها: ما حكاه ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل (1/ 336) قال: (( رأيت في كتاب كتبه عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني -المعروف برسته- من أصبهان إلى أبي زرعة بخطِّه: وإنِّي كنتُ رويت عندكم عن ابن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبي صلى الهل عليه وسلم أنه قال: (أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ)، فقلتَ: هذا غلَطٌ، الناسُ يروون عن أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. فوقع ذلك من قولك في نفسي فلم أكن أنساه، حتى قدِمتُ ونظرتُ في الأصل، فإذا هو عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنْ خفَّ عليك، فأعْلِم أبا حاتم عافاه الله ومَنْ سألك من أصحابنا، فإنَّك في ذلك مأجور إنْ شاء الله، والعارُ خيرٌ من النار )).
بل عدَّ المحدِّثون عدم رجوع الراوي عن الرواية إذا بُين له خطؤه فيها موجباً لتركه. فقد سئل شعبة بن الحجاج كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 32): متى يُترك حديث الرجل؟ فقال: (( إذا حدَّث عن المعروفين ما لا يَعرفه المعروفون، وإذا أكثر الغلط، وإذا اتُّهِم بالكذب، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه، فيتركه، طُرِح حديثُه، وما كان غير ذلك فارووا عنه )) . ونحوه عن الإمام أحمد في الكفاية للخطيب (1/ 429).
وبحمد الله، مازالت هذه الخصلة في مشايخنا وعلمائنا، على اختلاف بلدانهم وأمصارهم.
وممَّن عرفتُ فيهم هذه الخصلة، ولمَسْتها منهم: شيخنا العلامة الفقيه الصادق بن عبد الرحمن الغرياني حفظه الله ونفع به المسلمين، فلقد رأيت منه العجَب في هذا الباب، فإنَّه -فيما علمت- لا يأنف من الرجوع عن خطأ بدا منه، ولو كان من نبَّهه من صغار طلابه، أو واحداً من مخالفيه، بل طالما رأيته وسمعته يحثُّ الطلاب على ألاَّ يتوانوا في تنبيهه على شيء يجدونه في كتبه.
ومن أمثلة ما تراجع عنه شيخنا حفظه الله ما يلي:
1] مسألة التفويض في معاني الأسماء والصفات:
قال شيخنا حفظه الله في كتابه الحكم الشرعي بين النقل والعقل (ص245) -وهو يتحدث عن موقف السلف من النصوص الواردة في صفات الله جل وعلا: (( ذهب السلف وجمهور المتقدمين من الأمة إلى إثبات هذه الصفات لله … وإنَّما يقولون هي أسماء لصفات جاء بها الشرع، نؤمن بها كما جاءت، ونفوض معناها إليه، فالاستواء على العرش يكون على الوجه الذي عَنَاه سبحانه، منزهاً على الاستقرار والتمكين ، أما كيفيته فهو من الأشياء التي لا يرقى إليها العقل لأنها خارجة عن إدراكه، والواجب فيها الإيمان بالنص مع التفويض في المعنى …. )).
كذا قال حفظه الله في الطبعة الأولى من الكتاب.
ثم عدَّل العبارة في الطبعة الثانية (طبعة دار ابن حزم- 1427هـ) (ص252-253)، فقال: (( ذهب السلف وجمهور المتقدمين من الأمة إلى إثبات هذه الصفات لله، ونسبتها إليه تعالى كما وردت بها النصوص، دون تأويل أو تبديل، مع العلم قطعاً بأن الله عز وجل لا يشبهه شيء من المخلوقات، فلا يقولون: أن اليد معناها القوة، أو أن الوجه معناه الذات، أو أن المجيء كناية عن الأمر، كما أنهم لا يقولون عنها إنها جوارح وهيئات يدرك العقل لها شبيهاً، وإنَّما يقولون: هي أسماء لصفات جاء بها الشرع، نؤمن بها كما جاءت، ونفوض كيفياتها إلى الله تعالى، فالاستواء على العرش يكون على الوجه الذي عناه سبحانه، منزهاً عن الاستقرار والتمكن، أما الكيفية فمجهولة؛ لأنها خارجة عن الإدراك. وحجتهم في ذلك عدة أمور:
أولاً: إن الكلام على الصفات فرع للكلام على الذات، وإثبات الذات إنما هو إثبات وجود لا تكييف، فكذلك الصفات وجودها ثابت، وكيفياتها لا تدرك … )).
فكان يقرر أولاً تفويض معاني هذه الصفات-وهو التفويض المذموم-، ثم عدَّل العبارة بتفويض الكيفية -وهو مذهب السلف- واستدل على ذلك بقوله: القول في الصفات كالقول في الذات، وبما أنَّ إثبات الذات إثبات وجود لا تكييف، فكذلك يكون إثبات الصفات إثبات وجود لا تكييف.
كما حذف قوله: (( والواجب فيها الإيمان بالنص مع التفويض في المعنى )).
2] تفسير اسم (الله):
قال شيخنا سلَّمه الله في كتابه أساسيات الثقافة الإسلامية (ص163) في سياق ذكر أسماء الله الحسنى: (( هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم … )).
ثم ذكر في الحاشية تفسير اسم الجلالة (الله)، فقال: (( الله معناه مَنْ له الإلهية، وهي القدرة على الخلق والاختراع )).
كذا قال حفظه الله في طبعة (دار المقري للنشر والتوزيع 2004م).
ثم رجع في الطبعة الأخيرة من الكتاب (طبعة دار ابن حزم 1427هـ- 2006م)، فقال (ص149 في الحاشية المذكورة): (( الله معناه: المعبود )).
وقال حفظه الله في الكتاب نفسه (ص133): (( معنى الشهادة لله بالوحدانية: أنه لا معبود بحق في الوجود إلاَّ الله تعالى، فلا يُقصد إلا الله، ولا يُستعان إلا به، ولا يتوجه إلاَّ إليه، ولا يُدعى غيره …. )).
كما سُئل في موقعه الرسمي على شبكة المعلومات الدولية، (فتوى رقم66 بتاريخ 19/1/2008م) ما نصه: (( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قرأت لفضيلة الشيخ الدكتور الصادق الغرياني حفظه الله في كتاب العقيدة والمنهج في تفسير اسم الله “أنه من الألوهة وهي القدرة على الخلق و الاختراع” وسؤالي هو: أليس هذا تفسيراً أشعرياً وأنَّ الصحيح هو المعبود؟ أفتونا أثابكم الله )).
فقال حفظه الله: (( بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. صحيح، الله هو المعبود دون شك، من أله بمعنى عبد، وفي بعض الطبعات من كتاب (في العقيدة والمنهج – طبعة ابن حزم) تجده كذلك، ولكن السؤال هل الاعتراض على تفسيره بالقدرة على الخلق لأنه خطأ، وأنَّ الاسم لا يدل على ذلك ويترتب عليه محذور، أم لأنَّ القائل به أشعري؟! معيار قبول العلم أو رده الخطأ والصواب، وليس له معيار سوى ذلك، فالقول لا يُوزَن بالشيوخ، ولو رددت كلَّ علم قاله أشعري لرددت أكثر العلم، ولما بقي معك منه إلاَّ القليل، وهذا بين لا يحتاج إلى دليل، فاعقل يا بني، وأنصف من نفسك كل موافق لك في العلم ومخالف، فالإنصاف من زاد الآخرة، قَلَّ اليوم الحائز عليه، لذا جعل الله تبارك وتعالى صاحبه أقرب للتقوى، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ )).
3] مسألة الخروج لزيارة قبور الصالحين والعلماء:
قال شيخنا في كتابه (دفن الميت وعادات المأتم ص80): (( يجوز الخروج لزيارة قبور الوالدين والعلماء والصالحين، ويخرج لها سواء كانت قريبة أو بعيدة لعموم الإذن بزيارة القبور في حديث: (نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا)، دون تفريق بين قريبة وبعيدة، ولِما جاء في الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّيَ أَنْ يَغْفِرَ لأُمِّي، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي)، وقبر أمه صلى الله عليه وسلم في الأبواء في منتصف الطريق تقريباً بين مكة والمدينة، فلا تتأتى زيارته إلاَّ بشد الرحال، وأمَّا حديث: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ)، فقد قال ابن بطال: هو خاص بمَن نذر الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة مساجد، فنذره لا يجب عليه الوفاء به، ولا يترتب عليه الإلزام الذي يترتب عليه في المساجد الثلاثة إذا نذر المشي إليها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يَشد الرحال إلى مسجد قباء، ويأتيه كلَّ سبت. ويدل على أنَّ ظاهر الحديث غير مراد على إطلاقه: أنَّ شد الرحال لغير المساجد كطلب العلم والتجارة جائز بالاتفاق، وممَّن نصَّ على جواز الخروج إلى زيارة قبور الصالحين والعلماء -طال السفر أو قصر- ابن العربي في كتاب القبس والغزالي في الأحياء )).
كذا قال حفظه الله في الطبعة الأولى من هذا الكتاب.
ثم رجع في الطبعة الثانية (1431هـ نشر دار بن حمودة ومكتبة الشعب) (ص106-108)، فحكى الخلاف في هذه المسألة أولاً، فقال: (( اختلف العلماء في جواز الخروج إلى الزيارة الشرعية إلى قبور الوالدين والعلماء والصالحين للاعتبار والسلام على الميت والدعاء له، أمَّا الخروج للزيارة البدعية لطلب العون من الميت وقضاء الحوائج فلا يجيزه أحد من العلماء؛ لأنَّها ذريعة لإفساد العقائد. واستدل من أجاز الخروج للزيارة الشرعية بعموم الأدلة الدالة على زيارة القبور، دون تفريق بين قريبة وبعيدة، ولما جاء في الصحيح … ابن العربي في كتاب القبس والغزالي في الإحياء.
ومن العلماء من أخذ بظاهر الحديث، وقال: يحرم شد الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة، كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأموات، وإلى المواقع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، قال الحافظ: وبذلك يقول الشيخ أبو محمد الجويني والقاضي عياض من المالكية وطائفة )).
ثم رجَّح المنع، وقال: (( وهذا القول هو الذي ينبغي أن يُعوَّلَ عليه في أيامنا، حيث إنَّ عامة الناس اليوم إذا خرجوا إلى الأضرحة لا يخرجون إلاَّ إلى الزيارة البدعية، يقصدون الأموات للاستشفاء وقضاء الحوائج وتفريج الكربات، ولا يقصدون الزيارة الشرعية للعبرة والاتعاظ )).
فحكى الخلاف أولاً، ثم رجَّح واختار المنع. بينما كان سابقاً يقرر الجواز مطلقاً، وصدَّر به كلامه في المسألة.
4] تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف).
هذه المسألة ذكرها شيخنا حفظه الله في كتابه تصحيحات في تطبيقات بعض السنن، وقرَّر فيها أنَّ الحديث محمولٌ على شهود العشاء والفجر مع الإمام، وليس المراد منه إكمال صلاة التراويح مع الإمام.
وقد كتب إليه بعض طلابه مرجِّحاً خلاف ما ذكره، فأفرد الشيخ لهذه المسألة رسالة ضمَّها إلى مسألة الصلاة بين السواري، ذكر فيها ملحوظات هذا الطالب، وناقشه فيها، فقال (ص34-35) ما نصه: (( جاء في الرسالة التي كتبتها بعنوان: (تصحيحات في تطبيقات بعض السنن) أنَّ من صلى تراويح رمضان مع الإمام، وكان عازماً على القيام آخر الليل، فليصل مع الإمام التراويح ولا يصلي معه الوتر والركعتين قبله، بل يؤخرهما آخر صلاته بالليل … وأمَّا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ” الذي خرَّجه أصحاب السنن من حديث أبي ذر، فالمراد به أنَّ الرجل إذا صلَّى الفريضة مع الإمام وتابعه إلى أن فرغ من صلاته كُتِب له قيام ليلة، وهو محمول على فريضة العشاء والفجر، كما دلَّ عليه حديث عثمان بن عفان الآتي، وأفاده غير واحد ممَّن شرح الحديث، لا على متابعته على عدد ما صلاَّه من النوافل كما يتبادر.
قلتُ -القائل هو شيخنا الصادق- هذا، فبعثَ إليَّ بعض مَن قرأه واطلع عليه ممَّن لهم اعتناء بالبحث وحِرْصٌ على معرفة صحيح العلم واتباع الدليل عند اختلاف الفقهاء بما مفاده …. )).
فذكر نص كلام الطالب في خمس صفحات، ثم أجاب عليه، وخلُص في الختام إلى قوله (ص56): (( الراجح -والله أعلم-: أن يُحمل حديث أبي ذر على ما يعم الفريضة والتراويح معاً، فيدخل فيه من صلى العشاء والفجر في جماعة؛ لما دل عليه حديث عثمان؛ ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويدخل فيه أيضاً من أقام مع الإمام حتى ينصرف في صلاة التراويح الذي هو سبب ورود الحديث. ويستثنى منه من كان عازماً على القيام آخر الليل؛ فإن الأفضل في حقه أن يؤخر الوتر ولا يصليه مع الإمام عملاً بالدليل الخاص، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْراً. وبذلك يحصل الجمع بين الأحاديث الواردة في الباب كلها، ويتم العمل بها على وجه لا تعارض فيه، والجمع بين نصوص الشارع ما أمكن أولى من التعارض )).
5] التفريق بين التصوف المعتدل والتصوف المنحرف:
قال الشيخ حفظه الله في كتابه أساسيات الثقافة الإسلامية (ص369): (( التصوف طريقة سلوكية قوامها التقشف والإعراض عن الدنيا والتحلي بالفضائل … وإمام المسلمين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامع لسني الخصال …. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى متصوفين )).
كذا قال حفظه الله في طبعة (دار المقري للنشر والتوزيع 2004م).
ثم عدَّل العبارة في الطبعة الأخيرة من الكتاب (طبعة دار ابن حزم 1427هـ- 2006م)، فقال (ص426): (( التصوف طريقة سلوكية، قوامها: القيام بأوامر الله تعالى، وتحقيق العبودية، والتقلُّل من الدنيا، والتحلي بالفضائل وتزكية النفس ومحاسبتها بمراقبة الله تعالى في السر والعلن والخوف منه، وتقديم محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم على النفس والولد، وهكذا كان التصوف في عصوره الأولى يعني تهذيب الأخلاق، والوصول بالمسلم إلى طهارة الظاهر والباطن … وكان سبيل الصوفية في الوصول إلى ذلك اتباع كتاب الله تعالى وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، والتمسك بالشريعة، والالتزام بأحكامها، والوقوف عند حدود الله تعالى أمراً ونهياً، فكان الواحد منهم محدثاً وفقيهاً ومفسراً. والتصوف بهذا المعنى هو أرقى درجات الإيمان، وإمامُ المسلمين فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامع لسني الخصال …… والتصوف بهذا المعنى هو الإحسان الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل … وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى متصوفين )).
6] ألَّف شيخنا حفظه الله كتاب العقيدة الإسلامية، فكتب إليه بعض الأخوة بملحوظات، فرِح بها الشيخ، واعتبرها هدية ممَّن كتب بها إليه. وقال عن ذلك في كتاب مخطوط لديه: (( فقد بَعث إليَّ بملاحظات حول كتاب العقيدة وغيره مِنْ كُتُبي عددٌ من أهل العلم والفضل، أشعُر تجاههم بالامتنان والعرفان، وأقدِّر حرصَهم على النُّصح والحق، فشكرتُ لهم سَعيهم، وسُرِرت به كثيراً، وعدَدته هدية غالية القدر من ناصح محتسب.
وهذه الملاحظات مختلفة المشارب، وما رجوتُ النفعَ به منها أوْلَيتُه عنايتي وراجعته، فوجدت في بعضها ما انتفعتُ به ونبَّهني على ما فاتني، وفي بعضها ما كان لي فيه قول آخر، أردت في هذه الأوراق توضيحَه، أسأل الله العظيم أن يرينا الحق ويرزقنا اتباعه، وأن يجعل ما بذله الناصحون من جهد في مراجعة ما كتبت في ميزان حسناتهم.
وسأُطْلع كلَّ من كاتبني على ما يخصُّه من ملاحظات، وتعليقي عليها، وقد يدعو الأمر إلى نشر ما يُرجى النفعُ به منها )).
إلى أن قال: (( من الملاحظات النافعة التي جاءتني ما كتب به إليَّ الشاب النابه الشيخ ………، وسأكتفي بخلاصة ما لاحظه الباحث في كلِّ وقفة من وقفاته، مستوفياً مقصوده إن شاء الله تعالى )).
ومن بين تلك الملحوظات: قول الشيخ حفظه الله في كتاب العقيدة الإسلامية (ص46): (( وفي المثل الذي ضربه الله عز وجل لنفسه في قوله تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ لفتٌ إعجازي للعقول بأنه سبحانه لا يُدركُ ولا يُرى، فقد أعطى العلمُ الحديث بُعداً جديداً لمدلول الآية الكريمة، فالعلم يقول: إنَّ النور لا يُرى في ذاته، وإنَّما يُرى بواسطة الأشياء إذا انعكس عليها أو تخللته … فكما أنَّ النورَ الذي ضرب الله به المثلَ لنفسه سبحانه لا يُرى في ذاتِه، وإنَّما ينعكسُ عليه، فكذلك الأمرُ إليه سبحانه، لا يُرى في ذاتِه، وإنما في عجائبِ مصنوعاتِه )).
قال المُلاحِظ: (( وفي إطلاقِ أنه سبحانه لا يُرى في ذاتِه ما يوهم نفيَ رؤيةِ المؤمنينَ ربَّهم يوم القيامةِ حقيقةً بأبصارِهم، كما قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، وكما أثْبَتَّه في كتابكم هذا (ص176).
وكذلك في (ص76) قلتَ ـ عافاك الله ـ: (( اتفق أهلُ العلمِ على أنَّ الله تعالى لا يَراه أحدٌ في الدنيا يقظةً بعينه … )) ولم تُشر إلى ما سيأتي من إثباتِ رؤيةِ المؤمنينَ ربَّهم يومَ القيامةِ.
والأولى ـ والله أعلم ـ الإشارةُ إلى ذلك، فقد يقفُ القارئ عند هذا المبحثِ، ولا يواصلُ القراءةَ إلى (ص176) ـ خاصةً مع تباعدِ المبحثينِ ـ فيتوهَّمُ نفيَ الرؤية في الآخرةِ أيضاً كما نفته المعتزلةُ وغيرُهم من أهلِ البدعِ )).
فردَّ الشيخ حفظه الله: (( هذا التحوط في محله، ويضاف إن شاء الله )).
فهذه أمثلة لما تراجع عنه شيخنا حفظه الله، رأيت ذكرها في هذا المقال تنبيهاً لطلاب العلم على أمور، منها:
أولاً: الاقتداء بالعلماء -ومنهم شيخنا العلامة الصادق بن عبد الرحمن الغرياني- في هذا الخلق، فإنَّه خلق عظيم، لا يستكبر عنه إلا متكبِّرٌ مغرورٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه-: (( الْكِبْرُ بَطْرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ )).
ثانياً: التأكيد على أنَّ الخير في الأمة لا ينقطع، وأنه لا يزال في كل زمان علماء قائمون بأمر الله، يكونون حجة على الخلق.
ثالثاً: التأكيد على أهمية معرفة المسائل التي رجع عنها أهل العلم، كي لا تُنسَب لأصحابها وقد تراجعوا عنها. وتزداد هذه الأهمية في حقِّ من تصدَّى للتحذير من شخص، أو أراد تصنيفه ونسبته إلى طائفة من طوائف أهل البدع.
رابعاً: تشجيع طلاب العلم على التناصح فيما بينهم، وحثُّهم على مكاتبة أهل العلم بما يجدونه في كتبهم أو محاضراتهم من مخالفات دون تشهير أو تضليل، فإنَّ الكثيرين منهم لو وجدوا من ينبههم لرجعوا إلى الصواب، وما كانت هذه التراجعات لِتوجَد، إلاَّ بوجود مثل هذه المناصحة.
هذا ما كنت كتبته قبل ستِ سنوات تقريباً ولم يتيسَّر نشره، ثم فوجئت ببعض مَن في قلبه مرض، أراد أن يُشغِّب على شيخنا، فصار يعدِّد أخطاءه -بزعمه- مظهراً مخالفته لمنهج أهل السنة والجماعة، فذكر هذه المسائل التي رجع عنها شيخنا، وما عَلِم هذا المبْتَلى أنَّه لو تكلَّف مراجعة الشيخ ونصحه مباشرة، أو مراجعة طبعات كتبه الجديدة، لتبيَّن له رجوع الشيخ عن هذه المسائل، ولكفَى نفسَه مغبَّة الوقيعة في أهل العلم بالباطل.
لكن يأبى الله إلاَّ أنْ يزيد في حسناتِ شيخنا لا من طريق محبيه ومتبعيه فحسبُ، بل على يد شانئيه ومبغضيه، ولله الأمر من قبل ومن بعد. كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما قيل لها: إنَّ ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر، فقالت: (وما تعجبون من هذا؟! انقطع عنهم العمل، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر).
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8].
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.