طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير –  الحلقة (109)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (109)

 

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة:210-211].

 

(هَلْ يَنْظُرُونَ) هل أداة استفهام تفيدُ التحقيقَ، مثل قد، والاستفهام إنكاريٌّ معناهُ النفي، و(يَنْظُرُونَ) يترقَّبونَ وينتظرون (إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أي في القيامة (فِي ظُلَلٍ) الظللُ جمع ظلّةٍ، كقُللٍ وقلّة: ما يستظلُّ به من الشمسِ ونحوِها، مشتقةٌ من الظّلّ، و(الْغَمَامِ) السحاب، و(الْمَلَائِكَةُ) عطف على لفظ الجلالة.

والمعنى: ما ينتظر هؤلاء المكذبون، الذين تقدم ذكرهم في قوله: (فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ)، مع تماديهم على العصيان أن يؤمنوا؟ وما ينتظر المنافقون، الذين هم أشد تكذيبًا منهم، ما ينتظرون جميعًا ويترقبون؟ لا ينتظرون إلا إتيان الله لهم في القيامة على هذه الصفة المهيبة، في ظلل من الغمام للجزاء، وإتيان الملائكة لتسحبهم على وجوههم إلى النار، هل ينتظرون بإيمانهم إلى ذلك الوقت؟ وهو من تعليق إيمانهم على ما لا طمعَ فيه([1])؛ كما قالت اليهود لموسى عليه الصلاة والسلام: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً)([2])، وفي الآية تهديدٌ ووعيدٌ للمكذبين بالقيامة وكروبِها.

وإتيان الله في قوله: (يأتيهم الله) من صفات الفعل الثابتةِ له سبحانه؛ كالنزول، والاستواءِ على العرشِ، على وجهٍ يليقُ به تعالى، لا كإتيانِ الحوادثِ، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)([3]).

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) الجملة حالية، على تقدير: وقد قضي الأمر، وقضاءُ الأمرِ فراغُه والانتهاءُ منه، أي: ويكون حينئذ – حين يأتيهم الله تعالى في ظلل من الغمام والملائكة – قد انتهى أخذُ ربِّك لهم، وفاتهم التدارك، وعبَّرَ عن المستقبلِ في (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) بالماضي لتحقّقِ وقوعِهِ (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)([4]) تصير الأمور، والإخبار برجوع الأمور كلها إلى الله، وعيدٌ لمن ينتظر بالإيمانِ أو بتجنب الزللِ، حتى يأتيه الله والملائكةُ في ظللٍ من الغمام.

(سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)([5]) الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتَّى منه، وبنو إسرائيل يعني أحفادَهم، الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤالهم هو سؤال تقريع على إعراضِهم، مع وضوحِ الدلائل والبراهينِ، أي: سَلْ بني إسرائيل الذين معك هذا السؤالَ: كم آتينا آباءَهم من آيةٍ بينةٍ؟ وقوله: (كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) كم آتينا أسلافَهم؛ لأن قيامَ الحجة على أسلافِهم حجةٌ عليهم، كم آتيناهم من معجزةٍ ظاهرةٍ، غاية في الوضوح، تدلّ على صدقِ الرسل، والوحي في الكتب المنزلة شاهدٌ على ما جاؤوا به (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) مَن يجحد نعم الله الكثيرة الوافرة، مِن بعد مجيئِها إليه، وتمكنِهِ منها، ومن أجَلّها الهداية والتبصير بالوحي المنزل والمعجزات الباهرة، ويبدّلها أو يحرفها عن مواضعها، بكتمانٍ أو سوءِ تأويلٍ (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) فعقابه مِن الله شديد([6]).

وجيءَ بلفظِ الجلالةِ الظاهر (فَإِنَّ اللهَ) بدلَ الضمير (فإنّهُ) لإدخالِ الرهبةِ في النفوسِ، بذكرِ الاسمِ العظيمِ في معرض الوعيد، و(الْعِقَاب) الجزاءُ المؤلمُ، سميَ بذلك لأنه يعقبُ الجريمة.

 

 

[1]) في قوله: (هل ينظرونَ) التفات إلى الغيبة، بعد الخطابِ في قوله: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ)؛ لتجديد اهتمام السامع، ولحرمانِ المتوعَّدين بالعذاب مِن تشريف الخطاب من الله لهم، فإنهم يُتكلم عنهم كما يتكلم عن الغائب، لا أن يخاطبوا من الباري عز وجل خطابَ الحاضر.

[2]) البقرة: 55.

[3]) الشورى: 11.

[4]) الفعل (رَجَعَ) يُستعمل متعديًا، ومصدره الرّجْع، وعليه قراءةُ تُرجعُ المبني للمفعولِ، ويستعمل قاصرًا، ومصدره الرجوعُ، وعليه قراءة تَرجع المبني للمعلوم، و(الْأُمُورُ) تكون فاعلا.

[5]) (سَلْ) من سَأَلَ تنصب مفعولين، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: سلهم هذا السؤال: كم آتيناهم من آية؟ وخففت همزة سأل فصارَ سَالَ كخَافَ، والأمر منه سَلْ، وأصلُه اسأل، حُذفت همزته للتخفيفِ، فانتقلت حركتها الفتحةُ إلى السينِ، ثم حُذفت همزة الوصلِ لعدمِ الحاجة إليها عندَ فتح السينِ، وكَمْ اسم استفهام مبهم للعدد تقريري، وآية تمييز يبين إبهامه، وجُرّ تمييزُها بمِن لفصله عنها بفعل متعدٍّ، للتنبيه على أنه تمييزٌ وليس مفعولًا به، ومثله في القرآنِ: (كَم تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)، (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً).

[6]) اقترنت جملةُ (فإن الله) بالفاءِ؛ لأنّها جواب الشرطِ، بناء على أنّ (ألْ) في العقابِ عوضٌ عن المضاف إليهِ، أي: شديدٌ عقابُه، أو لأنّ جملة (فإن الله) دليل جواب الشرط المحذوفِ، أي: ومَن يبدلْ نعمةَ اللهِ فاللهُ يعاقبه؛ لأنّ اللهَ شديدُ العقابِ.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق