المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (121)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (121)
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة:228-229].
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) البعولةُ جمعُ بَعْل، زوج المرأةِ، زيدت فيه التاء لتأكيد الجمعِ، كالخؤولة والعمومة، أو هو مصدرٌ بمعنى التبعُّل، كالفحولة والذكورة والسهولة، وأصلُ البعلِ السيدُ والمالكُ، وأطلقتهُ بعض الديانات القديمةِ على معبودهم، كما قال تعالى: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ)([1])، وفي إطلاقه على الزوج مع ما فيه من هذا الإيحاء اللغوي بمعنى السيد والمالك، ما يشير إلى معنى القوامة، والدرجة المشار إليها في قوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ومن الناحية الأخرى فإن في التسوية بين المرأة والرجل في عقد النكاح، القائمة على تسمية كل منهما زوجًا، كما في قوله تعالى: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)([2]) ما يشير إلى التكافؤ بين الزوجين في الحقوق، كما قال سبحانه: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) الضمير في بعولتهن يعود على المطلقات، والتفضيل في قوله (أحقّ) يمكن أن يكون على بابه، أي: بعولتهن أحق بالرجعة من النساء بالامتناع، إن أردن الامتناع، أو بعولتهن أحق وأولى بالترجيع من المفارقة، فيكون من التفضيل بين أحوال الشيء نفسه لا بينه وبين مقابله كما في الوجه الأول من باب قولهم: هذا بُسرًا أطيب منه رُطَبًا، وإذا كان التفضيل ليس على بابه، فعلى معنى: الحق في الرجعة للبعولة لا إلى غيرهم، وسمي المطلِّق رجعيًّا بعلًا لأنه المالكُ لاستمرار العصمةِ، والقادر على العود إلى ما كان عليه في أيِّ لحظةٍ، قبل انتهاء العدةِ، دون حاجةٍ إلى موافقةِ أحدٍ، فهو في قوة الزوجِ، بدليل أنه لو أوقع عليها طلاقًا آخرَ وهي في العدةِ لوقعَ، وتجب لها النفقة، ولو مات وهي في العدةِ لوَرثتْهُ، فهي من جهة الحقوقِ كأنّ العصمة باقية، حتى إنّ مِن أهل العلم – ومنهم الأحناف – مَن جوّزَ دخولَ الزوج على الرجعية في العدةِ؛ لأنّ الله تعالى سمّاه بعلًا، ولو وَطئَها كان ذلك ترجيعًا، والجار والمجرور في قوله (فِي ذَلِكَ) إذا تعلَّق بـ(أَحَقُّ) فالإشارة تكون إلى التربص، وإذا تعلق بـ(بِرَدِّهِنَّ) فالإشارة ترجعُ إلى النكاح (إِنْ أَرَادُوا) وقصدُوا بالرجعة (إِصْلَاحًا) وتوافقًا، لإعادة الألفة والمودة بين الزوجينِ، لا ترجيعًا لقصدِ الإضرارِ بالمرأة، لتطلق ثانيةً، وذكر الجملة في أسلوبِ الشرط (إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) مِن بابِ الإغراء على الإصلاح والترغيبِ فيه؛ ليكون إصلاحًا حقيقيًّا، لا لجعلِهِ شرطًا في صحة الرجعةِ، فإن الرجعةَ تصحّ ولو قصدَ الزوجُ الإضرار، لكنه آثمٌ بهذا التبييتِ السيئِ (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وللنساء من الحقوقِ على الرجالِ مثلُ ما للرجال على النساءِ من الحقوقِ، أي أنّ هناك حقوقًا مشتركةً، يطلبها كلّ واحد من الآخر، مثل المودةِ وحسن العشرة، ويكون طلب هذه الحقوقِ والوصول إليها بالمعروفِ، الذي يعرفه الشرعُ ولا ينكره، لا بما فيه معصيةٌ لله تعالى، وقدّم ما للنساء على ما للرجال للاهتمام به؛ لأن حق الرجل مسلَّمٌ به في العادة، لا يكادُ يُختلفُ عليه، وحقّ المرأة مهضومٌ في الغالبِ، إلَّا مِن زوجٍ لها عندهُ حظوةٌ، وفي تشبيهِ حقّها بحقِّ الرجلِ وأنّه مماثل له، دعوةٌ مِن القرآنِ إلى الاعتناءِ بحقوق المرأةِ منذُ نزولهِ، في وقتٍ لم تكن المرأةُ فيه شيئًا، كما قال عمر رضي الله عنه: (كُنَّا فِي الجَاهِلِيَّةِ لاَ نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ وَذَكَرَهُنَّ اللهُ، رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهُنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا)([3])، (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) بين الزوجين حقوق مشتركة متماثلة، وللأزواج عليهن درجة، هي القوامة في سياسةِ البيتِ وإدارته بعدَ التشاور (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) غالبٌ قويٌّ، واضعٌ كلَّ أمرٍ في الموضعِ الذي يليقُ به.
(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) بيان لحقيقة الطلاق الرجعيِّ، المشار إليه في قوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)، وأنه ليس حقًّا مرسلًا دون حدٍّ ولا عددٍ، كما كان عليه الحال في الجاهلية، حيث كان الرجلُ يطلقُ، فإذا اقترب أجلُ العدةِ رجعَها، ثم طلقها، وهكذا دواليك، يفعل ذلك ضرارًا، فلا تكون المرأة أيمًا فاقدة الزوج ولا ذاتَ زوج، فمنعهم الإسلام مِن ذلك، وحدّ لهم التطليق الذي يحقّ فيه للزوجِ المراجعةُ بتطليقتينِ، وقوله (مرتان) أي: مرةً بعدَ مرةٍ في وقتينِ، كما في قوله تعالى: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)([4]) أي: كَرّةً بعد كرةٍ، وجملة (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) خبرية لفظًا طلبيةٌ معنى، والطلب فيها على وجه الندب والتعليمِ، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى)([5])، (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) ثم بعد الطلقة الثانية، لم يبق للزوج إلا أن يمسك زوجته ليديم عشرته معها، ويعاملها بالمعروف، بما يحفظ لها حقوقَها التي بينتها لها الشريعة، وما تعارف عليه الناسُ مما لا يتعارضُ معها (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) إن رغب في الطلاق، فعليه أن يحسن الطلاق بما يطيبُ خاطرَ المرأة، المنكسر بألم الفراق، بأن يوفي لها صداقَها، ولا يأكلَ مالها، ولا يعضلها عن الزواج، كما كانوا في الجاهلية، وأن يمتعها بشيء من ماله، ويتلطف معها وهو يفارقُها، ثم إن كانت الطلقة هي الثالثة، فلا تحل له بعدها حتى تنكحَ زوجًا غيره، وهذه الطلقة الثالثة هي المشار إليها بقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
[1]) الصافات: 125.
[2]) البقرة: 35.
[3]) البخاري: 5843.
[4]) الملك: 4.
[5]) البخاري: 460، مسلم: 1782.