المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (145)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (145)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)[البقرة:282].
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) بعد أن حرم الله في الآيات السابقة الربا، الذي أصله ربا الجاهلية، القائم على المداينة، وأمر الناس أن ينتهوا عنه، ويأخذوا رؤوس أموالهم، قد يتبادر من تحريمه التحذير من التعامل بالدين مِن أصله، سدًّا لباب الربا؛ فبين الله تعالى في هذه الآية مشروعية التعامل بالدَّين، وأنه ممَّا لا غِنى للناس عنه، إذ لا يتم نقل الأملاك وتداولها بالبيع الذي أحله الله، على وجه يكمل انتفاع الناس به، إلا بالإذن بالمداينة للمحتاج، فهي لا تنفك عن معاملات الناس في تجاراتهم ومعيشتهم، وكذلك ما يستتبع المداينة من توثيق الحقوق، بالكتابة والإشهاد وأخذ الرهن ونحوه، مما يحفظ أموالهم، حتى لا تتعرض للضياع عند الخصومة بالتجاحد والتناكر، لذا اعتنى القرآن في هذه الآية – آية المداينة، وهي أطول آية في القرآن – بالتوثيق ببيانٍ وافٍ، وتطويل كافٍ، وإطنابٍ يتطلبُه المقام، وشدد على تفصيلات الكتابة والتوثيق، محذرًا من الضجر والملل في ذكر ما يثبت الحقوق، الذي قد يؤدي إلى القصور، ويفتح بابًا للخصام، ولأن العناية فيها بالتدقيق والتحقيق تنعكس بالثقة على أصحاب الأموال، لتسمح أنفسُهم بتداولها مداينة، دون خوف عليها من الضياع والنكران، والخطاب في الآية عام للمؤمنين، والمراد منه خصوص مَن يتعرض منهم للتعامل بالدين، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية نزلت في نوع من الديون، وهو دين السلم، الذي يعجل فيه الثمن وتؤجلُ فيه السلعة، والعبرة في الأحكام عند الأصوليين بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
والتداين: الدخول في التعامل بالدين، والدَّين هو العوض الآجل، فيأخذ المتسلف عاجلًا ليؤدي عند الأجل، والمداينة مفاعلةٌ تقتضي دائنًا ومدينًا، كما تقتضي بالضرورة مالًا مؤجلًا، وهو الدَّين، فالدين مفهوم من قوله: (تداينتم)، وقوله: (بِدَيْنٍ) بعد ذلك هو من باب رأيته بعيني، تأكيد لوقوع المداينة بالفعل؛ ليرتفع احتمال المجاز الصادق بمجرد الوعد بالمداينة، والأجل المسمَّى هو المدة المحددة لأداء الدَّين، تحديدًا يرفع النزاع، بأن يتحددَ بالشهر أو اليوم، لا بوقتٍ لا يُعلم متى هو، كنزول المطر، أو يُعلم ولكنه يختلف اختلافًا يفضى إلى الخصام، كقدوم المسافر وشفاء المريض ونحوه، واتفق أهل العلم على أنّ تحديد الأجل في دين السلم – الذي هو سبب نزول الآية – شرطٌ لا بدَّ منه في عقد السلم؛ لما ثبت في الصحيح: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلمون، فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)([1]).
وفي دين القرض انفرد المالكية – دون غيرهم – بجواز اشتراط الأجل فيه، لعموم هذه الآية، وخالفهم الجمهور فقالوا: القرض حالٌّ على كل حالٍ، حتى لو أنه عقد على التأجيل لم يتأجل، كالعكس في أنّ كلّ دَين حلّ أجله لم يصِر بتأجيله مؤجلا، فهو حالٌّ على كلّ حال (فاكتبوه) الأمر بكتابة الدين على الندب عند الجمهور، ومنهم المالكية، وحمله بعضُ أهل العلم على الوجوب، ومنهم الظاهرية (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) الأمر هنا موجّه لأطراف العقد، لكل دائن ومدين، بأن يعتنوا بالكتابة لتوثيق ديونهم، وليس موجهًا للكاتب الموثِّق للدين، فذلك يأتي فيما بعد في قوله: (وَلْيَكْتُبْ)، وأمر الطرفين بالكتابة يتحقق بكتابة أحدهما للآخر إقرارًا بالدين الذي عليه، إن كان يحسن ذلك، أو بكتابة كاتب من غيرهما يكتب (بِالْعَدْلِ) بالتزام الحق، دون زيادة على المطلوب ولا نقصان منه، ومن لوازم الكتابة بالعدل أن يكون الكاتب ديّنًا ورعًا فقيهًا عالمًا بفن الصنعة، ومن العدل المأمور به أيضًا أن يكون المدين أحرص على الكتابة والتوثيق من الدائن، حتى لا تقع في نفس المدين إساءة الظنّ به، فيما لو طلبها منه الدائن، وهو هدي الأنبياء، فقد قال موسى عليه السلام عندما آجر نفسه من شعيب عليه السلام، متطوعًا بالإشهادِ على نفسه، فقال: (وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)([2]) (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ) ليس للكاتب الموثّق الذي طلب منه توثيق الحقوق أن يمتنع عن الكتابة (كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ)([3]) أي: عليه أن يكتب الكتابة التي طلب الله منه أن يتعلمها، وهي الكتابة بالعدل، وبما يحفظ الحقوق، دون غش ولا ميل ولا تدليس ولا تحايل، الكتابة التي تتقيد بما أحله الشرع، فلا توثق غصبًا ولا ظلما ولا حرامًا، ولا حكما جائرًا، طريقه الرشا وأكل المال بالباطل، أو تنفذ قوانين ولوائح بها مخالفات شرعية، يفرضها الحكام على الرعية؛ لأن هذا النوع من التوثيق من التبديل والتغيير الذي نهى الله عنه، وليس من الكتابة التي طلب الله من الكاتب أن يتعلمها، فإن الله يأمر بالقسط: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ)([4])، والنهي في (وَلَا يَأْبَ) للتحريم على مَن تعينت عليه الكتابة فلم يوجد غيره، فإنه يحرم عليه الامتناع، أمّا من وجد غيره فنهيه عن الامتناع نهيُ إرشاد وتوجيه؛ لأن التوثيق وكتابة الحقوق هو كسائر الوظائف الشرعية والحرف الحاجية مِن فروض الكفاية، التي يجب أن يكون في الأمة من يقوم بها، فإذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإلا أثموا جميعًا، فإذا انصرف عنها الناس تعينت على القادر منهم.
وأخذ الأجرة عليها جائز، ما دامت في دائرة الفرض الكفائي، فإذا ما تعينت على أحد امتنع عليه أخذ الأجرة، إذ لا يجوز أخذ الأجرة على فرائض الأعيان (فَلْيَكْتُبْ) بعد النهي عن الامتناع عن الكتابة أكدت بالأمر بها، أي: فليكتب الكاتب الكتابة التي علمه الله إياها بالعدل، وفيه دليل على أن النهي عن الشيء أمر بضده، كما يقول الأصوليون (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) وليملل من أملّ، ويقال فيها أيضا أمْلى، وعليها قوله تعالى: (فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)([5])، والمصدر منه الإملال والإملاء، ومعنى الإملاء إلقاء الكلام على الغير مقطعًا ليكتبه أو يحفظه، و(الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) هو المدين، والحق هو المال الثابت في ذمته (وَلْيَتَّقِ) الكاتب الذي يكتب الوثيقة، وفي حكمه الشاهد الذي يؤدي شهادته فيها، وليتق (اللهَ رَبَّهُ) فيما يكتب (وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ) من الحق الذي يكتبه لأي طرف من الأطراف (شَيْئًا) مهما كان قليلا أو كثيرا ، فإن شيئًا نكرة في سياق النفي، تفيد عموم التحذير من البخس مهما بلغ في القلة، والبخس: تنقيصٌ ناشئ عن تبييتٍ وسوء نيةٍ، وهو محرمٌ، يدخل في أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)([6]) والمعنى تحذير الكاتب من عدم كتابة الحق كاملا لأيٍّ من الطرفين (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أي المطلوب منه الحق (سَفِيهًا) معتوه العقل (أَوْ ضَعِيفًا) صغيرًا، أو شيخًا كبيرًا مخرفًا، أو مريضًا (أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) لا يقدر على الإملاء والتعبير عما يريد إثباته من الحقّ، لبكم أو صمم، أو لما ذكر من السفه والضعف (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) مَن يتولى أمر السفيه والضعيف، مِن أبٍ أو وصيٍّ أو وليّ أو مقدم قاضٍ (بِالْعَدْلِ) الذي يحفظ الحق، وفيه دليل على صحة النيابة في الإقرار، وإقرار الولي عن المحجور، إذا انتفت التهمة.
[1]) البخاري: 2126، ومسلم: 1604.
[2]) القصص: 28.
[3]) الكاف في (كما علمه الله) في محل المفعول المطلق.
[4]) الأعراف: 29.
[5]) الفرقان: 5.
[6]) الأعراف: 85.