طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (147)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (147)

 

(وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لِّلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:283-284].

 

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الرهان جمع رَهن، والرهن معناه الحَبس، ومنه قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)([1])، وفي الشرع: الرهن ما يأخذه الدائن من متاع المدين، يحتفظ به عنده ضمانًا وتوثّقًا لِدَينه، والرهن في الآية بمعنى الشيء المرهون، وهذا وجهٌ آخر من وجوه توثيق الدَّين، مضاف ومعطوف على ما تقدم في آية الدَّين مِن الكتابةِ والإشهاد، وذُكر الرهن مقترنًا بالسفر في الآية؛ لأن السفر يغلب فيه عدم وجود الكاتب والشاهد، كما قال تعالى: (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا)  لا لأنّ الرهن مشروطٌ بالسفر دون الحضر، هذا ما عليه جمهور الفقهاء، لما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعَهُ عند يهوديٍّ في ثلاثين صاعًا من شعيرٍ في الحضر، ولذا يعد العلماء الرهن في الحضر من الأحكام التي استقلت بها السنة، زيادةً على ما في القرآن، وقوله (مَقْبُوضَةٌ) صفة لرهان، صفة كاشفة مبينة لواقع الحال؛ لأن الرهن في الغالب يكون كذلك مقبوضًا، فليست للاحتراز من أنه إنْ لم تكن مقبوضة فلا يكون رهن، والقيود لا مفهوم لها عندما تكونُ لبيان الواقعِ، لذا فالرهن عند كثير من أهل العلم -ومنهم مالك رحمه الله- ينعقدُ ولو بدون قبض، والقبض عندهم شرط للزومه لا لصحته، فلا يلزمُ ولا تترتبُ عليه آثاره إلّا بالقبض، لكنه يصحُّ بدونه، وعلى المرتهن أن يطالبَ بالقبض، فلو عقد دائن رهنًا لضمان دينه وماتَ ولم يقبضهُ، فعقده صحيحٌ، لكن لا يستفيد منه شيئًا، ويكون فيما يتعلق بدَينه كسائر الغرماء.

وذهب جمهور أهل العلم -خلافًا للمالكية- إلى أن الرهن لا ينعقد إلا بالقبضِ، فليس هناك رهن أصلًا إذا لم يكن معه قبضٌ، والآية تشهد لمالكٍ، فإن الرهانَ وصفتْ بأنها مقبوضةٌ، وهذا يدل على وجودها قبل وصفها بأنْ تكون مقبوضةً،  إذ لا يوصفُ المعدومُ بأنه مقبوضٌ (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ) وهم أصحاب الديون (بَعْضًا) وهم مَن عليهم الديون، ولم يطلب البعضُ الأولُ مِن البعضِ الثاني رهنًا ولا شهودًا، ولا كتابةً لديونهم، بل أوكلوهم إلى دِينهم وأمانتهم، والوثوق بعهدهم (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) فالواجب أن يرد المدين الدَّين في أجلهِ، دون مماطلةٍ ولا جحودٍ، وسمي الدَّين أمانةً لما للأمانة من هيبةٍ في النفوسِ، ترهيبًا مِن تضييعِ الدَّين والنكرانِ (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) تذكير بالتقوى؛ ليحذرَ المدينُ الخيانةَ وإنكارَ الحقِّ فلا يغتر (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ) الخطابُ للشهودِ، ويدخل معهم المشهود عليه بالحق، فإنّه أشهد اللهَ على نفسه بالحق الذي تحمّلهُ بلسان حالهِ، أو لسانِ مقاله (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) جملة (آثِمٌ قَلْبُهُ) خبر (إنّ)، ومن يكتم الشهادة إذا طلبت منه يقع في الإثم، وبالأخص إذا عرّض كِتمانُه الحقَّ للضياعِ، وقد ورد في السنَّة مدحُ الشاهد الذي يشهدُ قبل أن يُستشهد، ووردَ ذمُّه أيضًا، والذمّ محمولٌ على مَن يتهم أو يشهدُ بالكذب؛ لأن الحرص على أداءِ الشهادة قبل طلبها كثيرًا ما يكونُ تهمةً وجرحةً، أمّا مَن عُلم ورعه وفضله، وإنما يبادرُ بالشهادة من عند نفسهِ؛ حفاظًا على الحق، حتى لا يتعرض للضياعِ بسبب غياب البينة، فلا شك أنه ممن يُمدح على شهادته، وأُسند الإثم إلى القلب؛ لأن الكِتمان محله القلب، فهو الجارحة التي باشرت المعصية، فاستحقت الذم بالإثم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ)([2]) (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وعيد عن الكتمان؛ لأن مَن لا تخفى عليه خفايا الصدور وآثام القلوب عقابُه متوقّع.

(لِّلَه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ) لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ خلقًا وملكًا، فكل الموجودات في قبضته.

ولما كانت الموجودات في قبضته، فلا يمكن أن يغيبَ عن علمه شيءٌ منها، مهما خفي؛ لأنه إنْ خفي عنه شيءٌ كان مستقلا عنه، فلا تكون ملكيته له تامةً، والله تبارك وتعالى ملكه تام غير ناقص، وقوله: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) أي: إن تُعلِنوه أو تسرُّوه في أنفسكم (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) جواب الشرط، ومقتضى الحساب العقوبةُ، فيفيد ظاهر الآية العقوبة على كلّ ما أخفاه الناس من حديث النفس، ومثله قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)([3]) فإن فيه الوعيد على محبة إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وهي عمل من أعمال القلوبِ.

وهو ما يتعارض ظاهره مع ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ)([4])، وظاهرِ قولِه صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)([5])، وأجابوا عن هذا بأنه لا معارضة بين ما جاء في  القرآن وما جاء في الحديث، فإن المعفوَّ عنه مما في القلب، الواردَ في الحديث، هو ما يردُ على القلب من الخاطر والوسوسة وحديث النفس؛ لأنه ليس من فعل المكلَّف، ويردُ عليه دون اختياره، ومثل هذا ما ثبت من الخاطر في النفس، وهو الهمُّ بالسيئة، هو أيضًا معفوٌّ عنه، إذا تركه صاحبه، ولم يفعله بعد أنْ همَّ به، كمن همَّ بالقتل ولم يقتل، أو بشرب الخمر ولم يشرب، وذلك رحمة من الله بعباده؛ لأن الهمَّ أولُ مراتبِ العزمِ، وليس متمكِّنًا مِن القلبِ.

لذا؛ فإنّ الهمَّ الذي في محلّ العفوِ، هو الهمُّ الذي إذا لم يصحبهُ فعلٌ انصرف عنه صاحبهُ وتركهُ، ولم يثبتهُ ويعزم على تنفيذهِ، أمّا مَن همَّ بالسيئةِ وعزمَ عليها، كأنْ همَّ بالقتلِ وصممَ عليه ولم يتركهُ، وإنما منعهُ منهُ مانعٌ؛ فهو مؤاخَذٌ به؛ لأن ما في القلب تحولَ إلى عزمٍ وتصميمٍ وإرادةٍ، والعزمُ عملٌ مِن أعمالِ القلوب، وذلك كأنْ يعزم أحدٌ على الكفرِ والنفاقِ، أو على تبييتِ الشرِّ والتربصِ بالمسلمينَ، وكعقدِ القلبِ على الحسدِ والخيانةِ ونحو ذلك، فهذا مؤاخَذون به؛ لأنه عملٌ مِن أعمال القلوبِ، يدخلُ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ)([6]).

وهو محمل عموم المؤاخذةِ في قوله: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه) وفي قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[7]، فمحبة إشاعةِ الفاحشةِ كان معاقبًا عليها؛ لأنها إرادةٌ للمعصيةِ وعزمٌ عليها، وفي التعبير بالمضارعِ في (يُحبُّونَ) الدالِّ على الاستمرارِ، ما يشير إلى العزمِ والإرادة، فعزم القلبِ على المعصيةِ معاقبٌ عليه، إذا لم يتركهُ صاحبهُ حتى منعه منهُ مانعٌ، وهذا الموضعُ جمع لك ما قيل في المسألة محررًّا، قلَّ أنْ تجده في مكانٍ واحدٍ، فاحرصْ عليه.

وقوله: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) بقراءة الجزم الجملة عطفٌ على جزاء الشرطِ يحاسبْكُم، وبالضمّ على الاستئنافِ، على تقدير: فهو يغفرُ (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومِن ذلك قدرتُهُ على البعثِ والمحاسبة.

 

 

[1]) المدثر: 38.

[2]) الترمذي: 3177.

[3]) النّور: 19.

[4]) البخاري: 5269.

[5]) مسلم: 255.

[6]) البخاري: 5269.

[7]) النّور: 19.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق