المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (149)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (149)
(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[البقرة:286].
(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) المؤاخذةُ: العقوبةُ، والنسيانُ: فواتُ الشيء لعدمِ تذكرهِ، والخطأ: فعلٌ غير مقصودٍ، وعدمُ المؤاخذةِ على الخطأ والنسيانِ هو في الأحكامِ التكليفيةِ، المتعلقةِ بالإثم، أمّا الحكم الوضعي فهو غيرُ مرفوعٍ بالخطأ والنسيان، ولذا وجَبَ مع الخطأِ والنسيانِ الكفارةُ وضمان المتلَفات في الأموال، وإنْ كان من أتلفَها مخطئًا أو صبيًّا أو مجنونًا، لأنّ الخطأ والعمدَ في أموالِ الناسِ سواء، وهذا الدعاء إن كان المسلمون أُلهموا إليه قبل نزول قول الله جلّ جلالهُ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) فلا إشكالَ، ويكون الله تباركَ وتعالى قد استجابَ لهم، وقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإنْ كانوا ألهموه بعد نزولها، فمعناه طلبُ أن يُديمهم الله على عدم المؤاخذةِ بالخطأ والنسيان؛ خوفًا مِن زوال النعمةِ، ولعله الأقربُ، لأنّه الموافق لترتيبِ الآياتِ في القراءةِ، أو يكون المعنى في هذا الدعاء: طلب عدم المؤاخذة على التقصيرِ في الأخذِ بالاحتياطِ الكافي لتجنب وقوعِ الخطأ؛ لأنّ التقصير في الاحتياط هو الذي يوقعُ في الخطأ أو النسيانِ، فإنهما لا يخلوانِ مِن تقصيرٍ في الأخذِ بالأسبابِ غالبًا (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا) الإصرُ ترجع معانيه إلى الثقلِ والشدةِ، وفعلُه أَصَرَ، من بابِ ضَرَبَ، أي: لا تكلفْنا عقوبةً وإلزامًا منكَ بما يثقلنا ويعسرُ علينا، ولا نقدرُ على الوفاء به (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) الكاف بمعنى مثل، صفةٌ لإصر، أي: لا تكلفنا حالةً من الشدةِ مماثلةً لحالة مَن كان قبلنا في بني إسرائيل، فقد أُمروا في تحصيل التوبةِ بقتلِ أنفسهم، وعوقِبوا بإلقائهم في الصحراءِ، يتيهون في الأرض أربعين سنةً، وكُلفوا بذبح بقرةٍ يندرُ الحصولُ عليها، صفراء فاقع لونُها تسرُّ الناظرينَ، بقرة عَوانٌ لا ذلولٌ تثير الأرضَ ولا تسقِي الحرثَ، مسلَّمةٌ لا شيةَ فيها، وكان مَن أصابَ ثوبَه منهم نجاسةٌ كلّف أن يقرضَهُ بالمقراضِ، وغير ذلك مِن العنت والمشاقِّ، التي عافا اللهُ سبحانه وتعالى منها هذه الأمة (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) لا تكلِّفْنا الذي لا نقدرُ عليهِ، فنعجزُ ونعصيك (وَاعْفُ عَنَّا) اصفحْ وتجاوزْ عنّا (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوبَنا بالعفوِ عنها، واستُرها، فلا تفضحْنا بها (وَارْحَمْنَا) أحسنْ إلينا فوق ذلكَ، وتفضَّل علينا (أَنْتَ مَوْلَانَا) ليسَ لنا غيركَ، ومن معاني المولى السيد، أنت متولّي أمرِنا وسيدنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السَّيِّدُ اللهُ)([1])، (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) فلا مولى لنا غيرُك ينصرُنا على القوم الكافرين، وما ظنُّك بمَن كان اللهُ مولاه؟! ولذا لما قال أبو سفيان يوم أُحدٍ: لنا العزَّى ولا عزَّى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه؛ قُولُوا: اللهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ)([2])، والنصر على القوم الكافرين معناه استتبابُ أمنِ المسلمين، وطيبُ العيشِ، وظهور الدِّين، والسلامة من المكائدِ والمكرِ، الذي صار الآن يتولَّاهُ معهم أبناءُ جلدتِنا، يستعملونهم أعيُنًا على المسلمين، لا يألونَهم خَبالًا، رُوي أنّه قيل لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عقبَ كل دعوةٍ دَعَا بها مِن هذه الدعواتِ مِن قِبل الباري: (قَدْ فَعَلْتُ)([3]).
في البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ)([4])، قيل: كفتاهُ قيامَ الليلِ، وعليه يكونُ المعنَى: مَن صلى بهما، وهو مرويٌّ عن بعض السلفِ، وقيل: كفتاهُ مِن الشياطينِ وأذاهم، وبُوركَ له في ليلتهِ بقراءتهما، ولفظُ الحديث صالحٌ وشاملٌ للأمرينِ، والآيتانِ هما مِن قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى آخر السورة، والله أعلم.
انتهت سورة البقرة، يسر الله إتمام أخواتها من باقي سور القرآن المجيد.
وصلَّى اللهُ وسلمَ وَبَاركَ على محمد وآله
[1]) مسند أحمد: 16307.
[2]) البخاري: 3039.
[3]) مسلم: 200.
[4]) البخاري: 3786، مسلم: 1914.