المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (152)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (152)
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[آل عمران:7].
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) لما ذكر أنّ في القرآن محكمًا ومتشابهًا، اقتضَى السياق تفصيلًا لمَن يتبعُ كلا منهما، لكن لما كان المحكم لا توجدُ دواعٍ للاختلافِ حوله لوضوحِهِ، طُوي الكلامُ عنه، واكتُفي بذكرِ المتشابِه، فهو الذي يجدُ مريدُ الزيغِ والتلبيسِ تعلقًا به؛ للتشغيب وإثارة الشبه، والزيغُ: الميل عن الاستقامةِ إلى أحد الجانبين، ومنهُ: زاغتِ الشمسُ، إذا مالتْ وامتدَّ الظلُّ بعد منتصفِ النهار، والأفعالُ زاغَ وزالَ ومالَ متقاربةٌ معنًى، لكن زاغَ لا يقالُ في الشرع إلا فيمَا كان عن حقٍّ إلى باطلٍ، والمعنيّ بالزيغ هنا الميلُ عن الاستقامة إلى الهوَى؛ مخالفةً للحقّ.
(ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) يتبعونَ المتشابهَ لأجل شيئين؛ طلبًا للفتنةِ بالتشكيكِ والتلبيسِ على الناس بإلقاءِ الشُّبهِ المضلةِ، وابتغاءً للتأويلِ الفاسدِ الذي تهواهُ النفوسُ، على خلافِ قواعدِ الشرع؛ للبهرجةِ والتمويهِ، والزعم أنهم متمسكونَ بالحقّ والدليلِ للترأسِ، وتكثير الأتباع، والفتنةُ المضلةُ التي يبغونها تكونُ أحيانًا بالتشكيكِ في التوحيدِ والإيمانِ، وفي ثوابتِ الدينِ؛ لزعزعة العقائد، كما في تعلقِ النصارى في عقيدةِ التثليث، بوصفِ عيسى في القرآنِ بأنه روحُ الله وكلمتُهُ، وأحيانًا بطرحِ بدعٍ مضلةٍ، وأفكارٍ غريبةٍ، ظاهرُها الحرصُ على إقامةِ الدين، أو تحكيمِ الشرع، وحقيقتُها تعطيلُ الشرع، والتنفيرُ منه، والبعدُ عن سبيلهِ، كما في استدلالِ الخوارجِ على نحلتهِم بقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)([1]) فاستدلوا بالآية، ولم يتأولوا المرادَ من الحكمِ على وجهٍ صحيحٍ، وكما في استدلالِ غلاةِ التصوفِ بقصةِ الخَضِرِ على مخالفةِ ظاهرِ الشرعِ، واستدلالِ التكفيريينَ والغلاةِ على قتلِ كلِّ كافرٍ – أينما وُجد، وحيثما حلّ – لا فرق بين معاهد وحربي، بقوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ)([2])، متأولين تأويلًا خاطئًا، أنها ناسخةٌ لكلّ آياتِ القرآنِ الكثيرة، التي تأمرُ بمعاملة مَن لمْ يقاتلِ المسلمينَ بالبرِّ والقسط، وتأمرُ بالإعراضِ عن الجاهلين، وعمَّن تولَّى، والآيات التي تدعُو إلى الله بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، والدفع بالتي هي أحسنُ، وما إلى ذلكَ مِن آياتِ الرفق، ومكارمِ الأخلاقِ، كل ذلك يتأولونهُ بأنه منسوخٌ بآيةِ السيفِ.
ووسيلةُ الغلاةِ والمبتدعةِ في الإقناعِ بهذه النِّحلِ وغيرها دائمًا، هو الاستدلالُ بالمتشابهِ، والميلُ بالدليل عن الاستقامةِ؛ إما بتعطيلهِ، أو تنزيلهِ على غير ما دلَّ عليه، أو بحملِ لفظهِ تعسفًا على أحدِ محتملاتِهِ الشاذة، التي توافقُ أغراضَهم الفاسدَة، وهذا معنى قوله: (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلَهُ) فالإضافة في تأويلهِ للعهدِ؛ لأن الإضافة تأتي لما تأتي له لامُ العهد، أي تأويلٌ مخصوصٌ لا يوافقُ المحكم، بل يوافقُ ما يشتهونهُ، ويتوافقُ مع الشبهةِ التي تهواها النفسُ، على خلافِ قواعد التأويلِ المعروفةِ في الاستنباطِ.
وقوله: (وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلَهُ) أي: ابتغاء إفسادِ تأويلهِ بالإتيان به على غير وجههِ، وعلى خلافِ قواعدِ العلمِ بالتأويل، وإلا فالتأويلُ في ذاتهِ وفقَ الضوابطِ الشرعيةِ غير مذمومٍ، ومَن يتعلقُ بالاستدلالِ بالمتشابهِ ليبثّه بين الناسِ يجبُ أن يُمنع، ويؤخذَ على يديه، ويحالَ بينه وبينَ الناس، ولا يُمكّن مِن نشرِ شبَهِه؛ لما في ذلك مِن التمويهِ على العامة، والضررِ بالدينِ، بالإحداثِ فيه تارةً، وبالتلبيسِ على أهلهِ أخرَى، وفيما فعله عمرُ مع صَبِيغ عبرةٌ وحجةٌ؛ فإنه لما قدم صَبيغ بنُ عِسْل – رجل من تميم – المدينةَ على عهد عمر، وأكثرَ السؤال عن المتشابه، وما لا تدعُو الحاجة إليه، تعمقًا وتنطعًا، ضربَه عمرُ ضربًا موجِعًا، وأمعنَ في تأديبِه، وكررَ عليه حتى قال: “حسبُك يا أميرَ المؤمنين، فقد ذهبَ ما كنتُ أجدُ في رأسي”، ثم أرسلَ بهِ إلى البصرةِ، وكتب لأبي موسى عاملِهِ أنْ يمنعَ الناسَ من مخالطتِه.
(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (الرَّاسِخُونَ) من الرسوخ: وهو الثباتُ في المكان والتمكن، والمرادُ من الراسخين في العلم: الذين لهم في العلم الشرعي منزلةٌ وتمكنٌ، جمَعوا مع العلمِ المتين المؤصلِ العقلَ والتربيةَ بالعلم، والصدقَ والقدوةَ الحسنة، فلا تزيغُ بهم الأهواءُ، ولا تروجُ عليهم الشبهاتُ (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) لا يعلم المقصود من المتشابه إلا الله، والجملة حالية، فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه، يحملونه على غير وجهه؛ ليلبسوا به، ويوهموا أنهم يعلمُونه، والحالُ أنه لا يعلمُ المقصودَ والمراد منه إلا الله، والراسخون في العلم، ومذهب السلف الوقف على (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وهو المرويُّ عن بعض الصحابة، منهم: ابن عمر وعائشة، وهي رواية عن مالك، ويكون (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مبتدأ، خبره (يَقولونَ آمنَّا بِه)، والمعنى عليه: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، وأما الرّاسخون في العلم فيؤمنون به، ولا يخوضون فيه، ويقولون آمنا به كما جاء، على مراد الله به، وعلى مذهب الخلف جملة (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) عطف على لفظ الجلالة، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا، وتكون جملة (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) جملة حالية، أي الراسخون في العلم هم أيضًا يعلمون المتشابه، ويتأولونه على وجهه حالَ كونهم (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) فلا يرد عليهم مع تأويلهم له وعلمهم به ما يشوّشُ عقائدهم، ولا يلقي في قلوبهم الشُّبه (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) كلٌّ قُطعت عن الإضافة؛ لتعم المحكم والمتشابه، ومِن للابتداء، أي: كل من المحكم والمتشابه منزل من عند ربنا (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) عطف على جملة (يَقُولُونَ آمَنَّا) لأجل مدحهم بأنهم مِن أولي الألبابِ على وجهِ الحصر، والألباب: العقول، جمعُ لُب، وهو الخالصُ من كلِّ شيءٍ.
[1]) الأنعام 57.
[2]) التوبة 5.