المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (154)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (154)
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ)[آل عمران:11-13].
(الدَّأبُ): إتعابُ النفس في العمل، مصدرٌ للفعل دأَبَ إذا كدَحَ (آلِ فِرْعَونَ) آل الرجل أهلُه وقرابته، وهم هنا أشمل من ذلك؛ فيعم الآلُ كلَّ خاصتِهِ مِن جنده وأتباعِه، وجملة (كَدَأْبِ) خبر لمبتدأ محذوف، أي: شأنُ مَن تقدم ذكرهم من مشركي العرب وأهلِ الكتاب من اليهود والنصارى في المدينة في عنادهم، كشأن فرعون وجنوده، والذين من قبلهم، ممن حلَّ بهم وعيدُ الله بالعذابِ في الدنيا، كقوم عادٍ وثمود (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) هم مثلهم، حالةَ كونهم قد كذبوا بآياتنا الكونية، وبالمعجزات التي جاءهم بها الرسل([1]) (فَأَخَذَهُمْ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) عاقبهم واستأصلهم في الدنيا بسبب ذنوبهم، فالباء للسببية، وعطفت جملة (فأَخَذَهُمْ) بالفاء الدالة على التعقيب على (كَذَّبُوا) لتدلّ على أنّ عاقبةَ التكذيب إهلاكٌ سريع، دون إمهالٍ ولا تراخٍ (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) تخويفٌ وتحذيرٌ من عاقبةِ التكذيبِ، فالقويّ الشديدُ العقابِ إذا أرادَ بقوم سوءًا فلا مردَّ له.
(قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (قُلْ) خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم (وَتُحْشَرَونَ) مِن الحشر وهو: جمع الخلائق في صعيدٍ واحدٍ، ليساقُوا بعد الحساب إلى مصيرِهم مِن الجنة أو النار، و(الْمِهَادُ) كالفراش لفظًا ومعنى، والآية تهديدٌ آخر وإنذارٌ موجه للكافرين والمشركين في مكة، وفي حكمهم كل كافر يأتي من بعدهم، بأنهم في الدنيا سيغلبون لا محالة، كما وقع لكفار قريش في بدر، وكذلك تهديد لمن تحالفَ معهم من اليهود بعد بدر وأُحُد؛ فقد قال اليهودُ للنبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر: لا يغرنك أنك أصبتَ أغمارًا لا علم لهم بالحرب، لئن قاتلتَنا لعلمت أنَّا نحن الناس، يعنون الناسَ الكُمَّل العارفين بالحروب، المجربين لها؛ لذا هُم بعد أحُد نقضُوا العهدَ مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتحالفوا مع قريش، وقد كانوا عاهدوهُ على الهدنة، فقد انطلقَ زعيمهم كعبُ بن الأشرف في وفدٍ إلى أبي سفيان بمكة، وقالوا للمشركين: “لتكونَنَّ كلمتُنا واحدةً على المسلمين”، لكن الله خذلهم، وكانوا مغرورين فغُلبوا، فكلام الله (سَتُغْلَبُونَ) هو الحق، والوعد الصدق، فغُلبوا جميعًا، وانكسرت شوكة المشركين في بدر، وقُتلت قريظة، وأُجليت بنو النضير، وفُتحت خيبر، وكان ذلك من دلائل صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، والآية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) وإنْ وقعت على سببِ نزولٍ خاصّ، فإنها قانونٌ عامّ، ووعدٌ بنصرِ المؤمنين قائمٌ إلى قيام الساعة، ما صَدَقوا الله تعالى، وأروهُ من أنفسهم خيرًا، فما توعد الله تعالى به الكافرين في الدنيا (ستُغلبونَ) قد رأوهُ وتحققَ، وفي الآخرة وهو قوله: (سَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) سيساقون فيه إلى جهنم، التي أعدُّوها ومهدُوها لأنفسهم بكفرِهم، وعدائهم لله ورسوله، فجهنم مصيرهم الذي يرجعونَ إليه، وهي مرقدُهم وفراشُهم، وبئسَ المهادُ جهنم مهادهم الذي مهدوه لأنفسهم، فمهادُهم الذي أعدوهُ هو المخصوصُ بالذمّ([2]).
(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) الخطاب في قوله: (لَكُمْ) عام للمسلمين والمشركين، بدليل قوله في آخر الآية: (وَاللُه يؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ) (آيَةٌ) معجزة، حيث أنجز الله تعالى ما وعد به نبيه من الانتصار عليهم في بدر، ومعجزة في رؤيتهم القليلَ من الجيش كثيرًا، والكثيرَ قليلًا في أوقاتٍ مختلفة؛ ليتحققَ النصر (فِي فِئَتَيْنِ) تثنية فئة، وهي الجماعة، وتقدم الكلام على الفئة في سورة البقرة، في قوله تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ)([3])، والفئتان هنا: جيشَا المسلمينَ والمشركين في بدر (الْتَقَتَا) من اللقاء، وهو المبارزة والمواجهة للقتال، والزيادة في الفعل التقتا للمبالغة (تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ)([4]) أي: يرى المشركون جيشَ المسلمين ضعفَ عددِ جيشِ المشركين، وكان المشركونَ في بدر قريبًا مِن الألف، فرأوا جيش المسلمين قريبًا من الألفين، مع أنهم في الحقيقة كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر، وهذا لا يتعارضُ مع قوله في الأنفال: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)([5])؛ فإن المسلمين قُللوا أوّلًا في أعين المشركين ليطمعُوا فيهم، ويجرؤوا عليهم، فلا يرجعوا عن الحرب، حتى إذا ما اجترؤوا عليهم، ولم يمكنهم أن يعودُوا، كثرهم الله في أعينهم؛ ليلقيَ في قلوبهم الرعبَ فيُغلبوا، فكان التقليلُ في البداية قبلَ اللقاء، والتكثيرُ عند اللقاء، فهما حالان مختلفانِ فلا تعارُض، ويصحّ أن يكونَ ضمير مثلَيهِم للمسلمين، أي يرى المشركونَ المسلمين ضعفَ عدد المسلمين، وكانوا ثلاثمائة وبضعةَ عشر، فرأوهم ستمائة ونيفًا (رَأْيَ الْعَيْنِ)([6])، أي: ظنوهم مثليهم ظنًّا بلَغَ من اليقين مبلغَ رؤيةِ العين.
(وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ) فعلَ الله تعالى بهم ذلك من التقليل والتكثير في أعينهم لينصرَ من يريدُ نصره، بعد أن يمدّه بأسبابه (إِنَّ فِي ذَلِكَ) التقليل والتكثير في الأعين، وانتصار القلة على الكثرةِ (لَعِبْرَةً لِأُولِي الأْبْصَارِ) في ذلك عِظةٌ لأصحابِ البصائر والعقول؛ ليعتبروا، ويتعلَّقوا باللهِ وحدَه، لا بسِواه.
[1]) فجملة (كذبوا بآياتنا) حاليةً على حذف قد، أو خبرًا على جعلِ (وَالذَّينَ مِن قَبلِهم) مبتدأ.
[2]) جملة (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) جملة دعائية، مِن عطف الإنشاء على الخبر في قوله: (سيُغلبونَ).
[3]) البقرة: 249.
[4]) الواو في ترونهم ضمير الفاعل للمشركين، والهاء ضمير المفعول للمسلمين، والهاء في مثلَيْهم للمشركين.
[5]) الأنفال: 44.
[6]) (رأيَ العين) مصدر مبينٌ لنوعهِ، بناء على أن (تَرَوْنَهُمْ) محتملة للرؤيةِ البصريةِ والقلبية، أو مصدر مؤكدٌ على أن الرؤية في (تَرَوْنَهُمْ) بصرية، وهو الأقرب؛ لتقوَى بها المعجزة عندما تكون الرؤيةُ حقيقية، رؤية معاينة ظاهرة، ومصدر رأى البصرية الرؤية والرأي كما في الآية، ومصدر رأى القلبية الرأي لا غير، ومصدر رؤيا النوم الرؤيا، والرؤية البصريةُ تتعدى إلى مفعول واحدٍ، ويكون (مَثْلَيْهِمْ) حينها منصوبًا على الحال، وعند حمل (تَرَوْنَهُمْ) على الرؤية القلبية يكون الإتيان برأي العين معها إنما هو على وجهِ التشبيه.