المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (158)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (158)
(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[آل عمران:22-25].
(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) إحباط العمل: ذهاب أثره الصالح، وزواله بالكلية، فلا ينتفع منه صاحبه بشيء، وهو لأهل الكفر ليس فقط في الآخرة، بل أيضًا في الدنيا لا يبقى له ذكر، فالكافر يُحرم في الدنيا من كل بركة، وأثرٍ نافعٍ لعمله، وينقطع بانقطاعه، فما يكتسبونهُ من شهرةٍ ومجدٍ ينقطعُ بانقطاع أعمالهم ومناصبِهم، كما هو مشاهدٌ، يكون الواحد منهم رئيسًا لدولةٍ كبرى، ملء سمعِ الدنيا وبصرها، فإذا ما تركَ مكانهُ طواهُ الزمن، ولم يعدْ يسمعُ به أحدٌ، وذلك على خلافِ صالحي المؤمنين؛ فإنّ الله يترك لهم ذكرًا في الآخِرين، وعملُهم مباركٌ يزكُو وينمُو، ولا ينقطعُ عند الله وبين الناس.
(وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) إذا حبطتْ إعمالهم واجهُوا مصيرَهم، لا يجدونَ ناصرًا ينصرُهم مِن عذابِ الله، وجيءَ في الآيةِ بالجمع (نَاصِرِينَ) مبالغةً في قطع أملهم بفقدِ النصير؛ فإنه إذا عجزت الجماعة عن نصرتهم انتفتْ نصرةُ الواحدِ مِن بابِ أولى، وتأكد نفي النصرةِ بدخول (مِنْ) الدالةِ على تأكيد عموم النفي في قوله (مِّن نَّاصِرِينَ).
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ) الاستفهام في (ألم تر) تعجيبي، للتعجيب مِن فعلهم([1])، والَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَاب هم اليهود؛ فقد جاء في سبب نزول الآية: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل مِدراسَهُم – وهو الموضع الذي يقرأ فيه اليهود التوراة([2]) – فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد، وهما من اليهود: على أيّ دينٍ أنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على دينِ إبراهيم، فقالا: إن إبراهيم كان يهوديًّا، فقال: هلمُّوا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم، فأَبَيَا، فنزلت الآية، والنصيب من الكتابِ الجزء والحظ([3]) (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الداعي لهم إلى الحكم بكتاب الله هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله هو القرآن، ويصح أن يكون كتاب الله في الآية هو كتابهم التوراة؛ فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عندما قال لهم: هلمّوا إلى التوراة، فإنها بيننا وبينَكم، أبَيَا، كما جاء في سبب النزول، وكذلك عندما أمرَهم بالرجوع إلى التوراة في أمرِ اليهوديينِ اللَّذَينِ زَنيا، أخفوا آيةَ الرجمِ من التوراة وأنكَروها، ويصحُّ أن يكونَ الداعي لهم إلى كتاب الله ليحكم بينهم هو مَن أسلم من أحبارِهم، مثل عبدالله بن سلام (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) التولّي: الإعراض، وعدم الاستجابةِ، وجيءَ بصيغةِ المضارع يتولّى ليدلّ على أنّ إعراضَهم متجددٌ كلما دُعُوا إلى كتاب الله، ولا يتوقف([4]).
(ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (ذَلِكَ) إشارة إلى إعراضِهم وكفرِهم (بِأَنَّهُمْ) الباء للسببية، فإعراضُهم وكفرُهم سببهُ تساهُلُهم، وعدمُ مبالاتهم، وغرورُهم، فجرّأهم الغرورُ على أن يقولوا في دينهم بأهوائهم، وأدخلُوا فيه ما ليسَ منه، ولم يلتفتوا إلى العواقب، وما يترتب على تهاونهم فيه مِن سوءِ المصير، ومِن غرورِهم أنهم تركوا الوحيَ المنزل، وكلام النبيّ المعصومِ، وتعلّقوا بمَا سوّلتْ لهم أنفسهم مِن الأمانيّ والأطماعِ الفارغة، مِن مثل قولهم تخرصًا على اللهِ وافتراءً عليه: لن يعذبَنا اللهُ طويلا، ولن تمسّنا النارُ إلّا أيامًا قليلةً معدودة، وأن آباءَهم الأنبياء يشفعونَ لهم، وأنه تعالى وَعَدَ يعقوبَ عليه السلام أن لا يعذبَ أولاده، إلا تحلّة القسم – أي شيئًا قليلا – وهو من الكذب والافتراء على الله، غرهم في دينهم ما كانوا يفترون، فَدَاؤُهم المصرحُ به في الآية هو الغرورُ، وهو داءٌ عضالٌ، لا شفاءَ معه، لأنّ صاحبَه يدَّعي لنفسِه ما لَا يراه الآخرون فيه، فلا يحسُّ بانحرافه، ولا يندمُ عليه.
(فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (كَيْفَ) للسؤال عن الحال، أي: فكيف يكونُ حالهم في ذلك الوقت؟ الذي يجمعهم الله فيه للحساب، فالاستفهام لتهويل واستعظام ما هم عليه من المكابرة والغرور، وللردّ عليهم بتكذيبِ قولهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أي: عليهم أن يسألوا أنفسهم إذا جمعهم الله للمساءلة والجزاء، في يوم آتٍ لا ريب فيه، ليوفَّى فيه كلّ عامل عملَه، ولا تُظلم نفس شيئًا، ولا تؤخذُ إلا بما كسبت([5]).
[1]) والرؤية بصرية؛ لتعديها بحرف الجر (إِلَى)، كما تقول: نظرت إلى فلان.
[2]) ويطلق المدراس على صاحب الدراسة ومعلمها.
[3]) و(الْ) في الكتاب للجنس فتفيد العموم، وتصلح لكل كتاب أنزله الله على نبي من أنبيائه، وعليه يكون التنكير في (نَصِيبًا) للتقليل، وحرف الجر (مِنَ) للتبعيض، ويصح أن تكون (الْ) في الكتاب للعهد، أي الكتاب المعهود لليهود، وهو التوراة، وعليه يكون التنكير في (نَصِيبا) للتنويع، أي: جاءهم نوع من الكتب يخصهم، وحرف الجر (مِن) للبيان، بين هذا النوع الذي يخصّهم مِن الكتب، وهو التوراة.
[4]) (ثُمَّ) للعطف، عطفت جملة (يَتَوَلَّى) على جملة (يُدْعَوْنَ)، وهي للترتيب والتراخي بين المعطوفين، لكنه ليس تراخيًا زمنيًّا، فهم قد يتولون وينفرون فورَ دعوتِهم إلى كتاب الله؛ لذا فإن الترتيب هنا رتبي، يفيدُ استغراب واستبعاد حصول التولي والإعراض منهم، بعد ما أوتوا حظهم من الكتاب، ودُعوا للحكم به، وجملة (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) حالٌ مؤكدة؛ لأن الإعراض هو التولي، وصاحب الحال (فريقٌ)، وهو وإن كان نكرةً فقد تخصصَ بالظرف (مِنْهُمْ)، فصحَّ ورودُ الحالِ منه، ولا يردُ عليه أنّ التولي والإعراض هو صفةٌ ثابتةٌ لهم، لا تنفكّ عنهم، وهذا ينافي الحالية، لا يرِدُ هذا؛ فإنّ الحالَ لا يلزمُ أنْ تكونَ منتقلة.
[5]) الضمير في (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) جمع مذكر عائد على (كُلُّ نَفْسٍ) ونفس مفرد مؤنث، وصح ذلك لتأويل النفس بالإنسان، أي: كل إنسان، ولمراعاة معنى الجمع في (كُلُّ)؛ لأنها وإن كانت مفردة في اللفظ، فهي جمع في المعنى.