المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (166)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (166)
(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[آل عمران:49-52].
(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) بشرتِ الملائكةُ مريمَ بابنِها، وبأنّه يكونُ وجيهًا في الدنيا والآخرةِ، ورسولًا إلى بنِي إسرائيل يقولُ لهم: إِنّي قد جئتكمْ بآيةٍ ومعجزةٍ من ربكم، فكأنَّ سائلًا سأَلَ حينَ سمع ذلكَ: وما هذه الآيةُ التي يجيءُ بها عيسى؟ فأُجيبَ: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)([1]) (أَخْلُقُ لَكُم) أي إني أصوِّرُ لكم من الطِّينِ صورةً مثلَ هيئةِ الطير (فَأَنفُخُ فِيهِ) فأنفخُ في الخلقِ الذي صورته مِن الطينِ النفخَ المعروفَ([2]) (فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) فيكون ما صورتُه طائرًا حيًّا يطيرُ بإرادةِ اللهِ وقدرتهِ.
وتكررَ في كلامِ عيسى صلى الله عليه وسلم قوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ) مرتين في جانبِ الإحياءِ خاصةً، دونَ غيرهِ مِن المعجزاتِ الأخرَى التي سيذكرها، مِن إبراءِ الأكمهِ والأبرص، والإخبار بالغيب؛ للتنبيهِ على أنّ الإحياءَ هو مِن اللهِ وليسَ منهُ، دفعًا لتوهُّمِ أنّه إلهٌ كما يفعل النصارى اليوم، وليعلم أنّ الإِحياءَ ليس مِن جنسِ أفعالِ البشرِ، فكان هناك ما يدعو إلى أسنادهِ إلى فاعلهِ حقيقةً.
(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ) الأكمهُ: الذي وُلد أعمى، أو الممسوح العينِ، والأبرصُ: مَن به داءُ البرصِ، وهو بياضٌ بالجلدِ، السطحيُّ منه يسمَّى بَهقًا، والغائرُ يسمّى برَصًا، وهو غيرُ مُعدٍ، لكنّ النفسَ تنفرُ منه، وكانُوا في بني إسرائيلَ يعزلونَ المريضَ، ويضعونَهُ في مكانٍ خاصٍّ، ولذا كانَ إبراءُ الأبرصِ عندهم مِن أعجبِ معجزاتِ عيسى صلّى الله عليه وسلم، وكانَ إبراؤُهُ لِمَن ذُكر بإجابةِ الله تعالى دعاءَهُ، ومن معجزاتهِ أنه كان يكلمُ الميتَ فيحييهِ الله تعالى ويجيبُهُ، ثم يمُوتُ.
(وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) يخبرُهم بأحوالِهم داخلَ بيوتِهم، التي لا يطلعُ عليها غيرُهم، مثل ما يأكلونَهُ وما يدَّخِرُونهُ مِن الطعامِ ونحوهِ مِن مدخراتهم، وهذه معجزةٌ أخرَى مِن الغيبِ الذي أطْلَعَه اللهُ عليهِ؛ ليوقنوا بصدقِ رسالتهِ، ولذَا قالَ: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
(وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) هذا مِن تتمةِ مضمونِ قولِ الملائكةِ عن عيسى، فبعد أن قالتِ الملائكةُ أن الله يجعله رسولًا يقولُ: أني قدْ جئتكُم بآيةٍ ومعجزةٍ من ربّكم، عطفَ عليه قوله: (وَمُصَدِّقًا) أي يقولُ: وجئتُكُم حالَ كوني مصدّقًا لمَا بينَ يديَّ مِن التوراةِ، والمصدّقُ المخبرُ بصدقِ غيرهِ، ولذا قال: (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) مصدقًا لمَا تقدَّمني وسبقنِي من التوراةِ، التي أُنزلت على موسى عليه السلام، ومعلومٌ أنّ عيسى عليه السلام جاءتْ شريعتهُ لإحياءِ العملِ بما جاءَ في التوراةِ، ولذا يسمّونها العهدَ القديم، فمِن علاماتِ نبوتِهِ أنّه مخبرٌ بصدقِ العملِ بما جاءَ في التوراةِ، ودخولُ اللامِ على المفعولِ في قولهِ (لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ) لتقوية الحكمِ المصدّق، وأنّ ما جاء في التوراةِ حقٌّ لا مريةَ فيه (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي: جئتكم مصدقًا لما في التوراةِ، وجئتُكم لأحلّ لكم بعضَ ما حرِّمَ عليكم فيها، فقد حرّمَ اللهُ على اليهودِ في التوراةِ أكلَ لحومِ الإبلِ، وبعضَ الشحومِ في الحوايا والأمعاءِ، وبعض الأسماك والطيرِ، وحرّم عليهم العملَ في السبتِ، وهذا التحليلُ مِن النسخِ لبعضِ أحكامِ التوراةِ، ونسخُ بعضِ أحكامِها لا ينافِي أنّه مصدقٌ لها؛ لأنّ النسخَ ليس إبطالًا، وإنّما هو تخصيصٌ لبعضِ الأحكامِ ببعضِ الأزمنةِ، حسبَما تقتَضِيهِ مصلحةُ التشريعِ.
(وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (وَجِئْتُكُم بآيةٍ) الآيةُ هنا العلامةُ، أي: ومِن علامةِ صدقِ عيسَى أنهُ جاءَ بما جاءَ به الأنبياء من التوحيدِ، وجاءتْ به الشرائعُ قبلهُ، فلم يخالفهُم في شيءٍ مِن التوحيدِ وأصولِ الإيمانِ، فدعوتُهم جميعًا هي التقوى وطاعة اللهِ (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) إنّ الربَّ واحدٌ، هو ربُّه وربُّهم، وقد استحقَّ بربوبيتهِ أنْ يفرَدَ وحدَه بالعبادةِ([3])، وقولهُ بعد الأمر بالعبادةِ: (هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) إشارة إلى أن الجمعَ بين الأمرينِ الاعتقادِ الحقّ والعملِ الصالحِ هو الصراطُ المستقيمُ، الذي فيه جِماعُ كلّ خير، وهو معنى ما جاءَ في الصحيحِ مِن حديثِ سفيان الثقفيّ، أنّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ؛ مُرنِي بأمرٍ في الإسلامِ لا أسألُ عنه أحدًا بعدَكَ، قال: (قلْ: آمَنتُ باللهِ، ثمّ استقِمْ).
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) (أَحَسَّ) أدرك بالحواس، أي: فلما أحسّ وأدرك عيسى عليه السلام من اليهود عنادهم وأيقنَ كفرَهم (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) مَن يصاحبُني ويشاركُني في الدعوة (إِلَى اللَّهِ) لنصرةِ دينه([4])، وقد دعا عيسى عليه السلام قومه إلى الإيمان، وأظهر لهم مِن المعجزات ما لا تمكنُ مكابرته، حتى أحْيا لهم الموتى بإذن الله، ولكنهم كابَروا وعانَدوا، فلما تيقَّن عنادهم وكفرَهم تيقُّن الشيء المحسوس المدرك بالحواس الذي لا مريةَ فيه، التجأَ إلى ربه، ودعاهُ أن يهيئَ له أنصارًا مؤمنين مخلصِين، يؤيدُه ويقويه بهم، ينصرون دينَ الله، ويدْعونَ الناسَ معه إلى الإيمان، فاستجابَ الله تعالى له، وأجابه الحواريون (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) الحواريون: جمع حَوارِيّ، من الحَور وهو البَياض، ومنه الحُور العين، وحَوَر العين: شِدة بياضٍ في شدةِ سواد، وحوارِي الرجل: خاصته، وصارَ الحواريون لقبًا بالغلبة للمخلصينَ مِن أصحاب عيسى عليه السلام، الذين آمنوا به ولازَموه، وكانوا اثني عشر رجلًا، وفي الحديث: (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ)([5]) (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) أنصارُ دينه ودعوته (آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أعلنوا تجديد إيمانهم، وفي الإخبار عن أنفسهم بقولهم (آمَنَّا) ما يتضمن طلب ثباتهم على الإيمان([6]) والخطاب لنبيهم عيسى عليه السلام، طلبوا منه أن يشهدَ لهم بالإسلام، الذي هو دينُ الأنبياء، حين تشهد الرسلُ على أُممِهم في القيامةِ.
[1]) لذا قُطعتِ جملةُ أني أخلق عمّا قبلَها ولم تعطف؛ فهي استئنافٌ بيانيّ في جوابِ سؤالٍ مقدر، وعلى قراءة كسرِ همزةِ (إنّي أَخْلُقُ) إعرابها عطفُ بيانٍ، وعلى قراءةِ فتحِها هي بدَل اشتمالٍ مِن (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم)، أو بدل بعضٍ من آية، وكلٌّ مِن البدلِ وعطفِ البيان لا يأتي معهُ حرفُ العطف.
[2]) فضمير (فيهِ) يعود إلى المصدرِ المفهومِ من (أخلُقُ).
[3]) فالفاءُ في قولهِ: (فَاعْبُدُوهُ) أفادَتْ تفريعَ الأمرِ بعبادتهِ عن ربوبيتهِ.
[4]) فإضافة النصرةِ إلى الله للملابسة والمصاحبة.
[5]) البخاري: 2847.
[6]) فكانت جملة (آمنَّا) خبرية لفظا إنشائية معنى، لذا حسن عطف (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) عليها.