المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (174)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (174)
(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[آل عمران:84-89].
(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وجاء التصريح بشمول الخطاب للأمة في آية البقرة: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا)([1])، والمعنى: قل لمن يبتغون غير دين الله من الكفرة: إننا (آمَنَّا) جميعًا؛ النبيّ صلى الله عليه وسلم آمَنَ والمسلمون، آمنوا بالله وبـ(مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) وهو القرآن، ونزوله وإن كان على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فنسبته إليهم لأنّ لهم به مزيد اختصاص؛ فهم معنيون به، لأنهم مشتركون بالعمل به، فشملهم الخطاب([2]).
(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) مِن الأنبياء المذكورين مَن أُنزلت عليه كتب، مثل: موسى وعيسى، ومنهم من أوتي وحيًا، أو أنزلت عليهِ صحف، كباقي مَن ذكر مِن الأنبياء، ويجب على المسلمِ الإيمانُ بما أنزلَ عليهم جميعًا، وهذا من علامات أن الإسلام هو دين الحق، وإنصافه وهيمنته، وصلاحيته لكلِّ الأممِ، فأتباعهُ يؤمنونَ بكلّ الأنبياءِ، بخلافِ مَن زاغُوا مِن أتباع مَا قبله مِن الأديانِ، فإنّهم لا يؤمنونَ بنبيٍّ إلّا ليكفُروا بغيرِه، وهذا في الحقيقةِ ليسَ إيمانًا، بل هو كفرَ، كما قالَ تعالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا)([3])، وقدّم الإيمانَ بالقرآنِ على غيرهِ مِن الكتبِ، وإن كانَ الآخر نزولًا؛ لأنّهُ مصدقٌ لمَا تقدّمهُ، ومهيمنٌ عليه، كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)([4])، و(الْأَسْبَاط) الفروع والأحفاد من ذرية يعقوب، وتقدم معناه مفصلًا في البقرة.
(وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) الإيمان واجبٌ بما أوتي النبيون جميعًا، وهو من عطف العام على الخاص؛ ليعمَّ الإيمانَ بما أوتيَ الأنبياء جميعًا، بعد تخصيص بعضهم بالذكر (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) جملة مستأنفة، مبينة ومؤكدة لكيفية الإيمان بهم، فالإيمان بهم جميعًا معناه عدم التفرقة (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)، و(أَحَد) بمعنى واحد، يدل على فرد من أفراد جنس الأنبياء، وهو نكرةٌ في سياقِ النفي، يفيد العموم في نفي التفرقة بينهم، والأصل في نُفرّقُ أنها تقتضي الإضافة إلى متعاطفينِ أو أكثر، لا إلى واحدٍ، تقول: لا أفرق بين محمد وعلي وعمر، ولا تقول: لا أفرق بين محمدٍ وتسكتُ، ففي الآية تقدير، والمعنى: لا نفرقُ في الإيمان بهم بين أحد منهم وآخر، ولا نقول: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ، كما فعل اليهود والنصارى، ولا يحملنا حبُّ نبينا على بُغضِ غيره، فتلك طريقةُ أهلِ الجور والعصبيات.
وهذه الآية عنوان القسط والعدل في دين الإسلام، كما قال تعالى: (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ)([5])، ومَن فعل ذلك دلَّ البرهان العقلي والشرعيّ على أنه أنصفَ واحتاطَ، وسلك سبيل الهداية الأقْوم (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) الجملة حالية، والضمير في (لَهُ) لله الخالق، وقد تقدم نظير هذهِ الآية في البقرة.
(وَمَن يَبْتَغِ) بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ومجيء الإسلام (غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هذا تأيِيسٌ لليهودِ والنصارَى، الذين يزعمونَ أنهم على ملةِ إبراهيم عليه السلام، وكذلك هو حكمٌ عام لغيرهم، فلا اعتِدادَ بأي نحلةٍ أو دينٍ، إذا لم يترك أهلُه ما هُم عليه، وينقادوا للإسلام؛ لأنّ الله حكَمَ على كل مَن أراد غير الإسلام بالخسرانِ، وليس له عند اللهِ تعالى قَبول.
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) قيل: نزلت في قومٍ آمنوا ثم ارتدُّوا عن الإسلام، منهم الحارث بن سويد([6])، أو عامٌّ في أهلِ الكتابِ، الذين علمُوا صدقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بينَهم، وامتنعوا عن اتباعِهِ حسدًا منهم، حيث لم تكن النبوةُ فيهم، وقوله: (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) أي: كيف يوفقُ الله للهداية النافعةِ الموصلةِ للحقّ (قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) كما فعلَ هؤلاءِ الذين ارتدّوا بعد إيمانهم، وكما فعل اليهود والنصارَى، بعد معرفتهم بصدقِ النبي صلى الله عليه وسلم، هم بعيدونَ من التوفيق، فقد قال اليهود عزيرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله.
(وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) شهدُوا بصدقِ محمدٍ صلّى الله عليه وسلم فيما بينهم، ودلتهم على صدقِهِ الآياتُ والبراهينُ الواضحةُ البيِّنة، في كتبهم وفي آياتِ القرآن، وهذا هو محلّ الاستغرابِ؛ أنهم كفروا بعد أن شهدوا بصدق النبيِّ في قَرارةِ نفوسِهم، وبعد أن تبيّن لهم الحق([7]).
والاستفهام في الآية إمّا للإنكار والنفي، ومعناه أنه لا هدايةَ لمن كفر بعدَ أنْ آمنَ، وشهد أنّ الرسولَ حقّ، وجاءته الحججُ والدلائلُ الواضحةُ الدالةُ على الإيمانِ، وقد يُستنبطُ مِن نفيِ الهدايةِ على هذا المعنى – إذا كانت الآيةُ في المرتدين، كما وردَ في سببِ النزول أنّه لا توبةَ للمرتدِّ.
وإمّا أن يكون الاستفهام لاستبعادِ إيمانهم، وقلة احتمالِ وقوعهِ؛ لأنّ مَن تبيّنَ له الحقُّ وصدّقَ به، ثم أعرض عنه عنادًا ولجاجًا، وانهمكَ في الغوايةِ؛ هو بعيدٌ عن الهداية الموصلة، لكنها لم تنتفِ في حقّه بالكليةِ، فلا تزالُ ممكنةً، وإن كانتْ بعيدةً، وعلى هذا المعنى فالمرتدُّ يستتاب؛ لأنه قد تُرجى توبتُه (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لا يهدي الذين ظلموا أنفسهم، فأعرضوا بعد ما تبيّن لهم الحقّ، وهو دليلٌ على أنّ مَن عصَى اللهَ عن علمٍ إثمُهُ أشدّ مِن غيرهِ.
[1]) البقرة: 136.
[2]) عدي (أُنْزِلَ) هنا بعلى الدالة على الفوقية؛ لأن الإنزال يأتي من فوق، من عند الله، وعدي في آية البقرة بإلى باعتبار الغاية؛ لأن الإنزال ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
[3]) النساء: 150-151.
[4]) المائدة: 48.
[5]) آل عمران: 119.
[6]) جاء في كتب السنة أنه أحد رجال الأنصار دون تسمية.
[7]) قوله: (وَشَهِدُوا) من عطف الفعل على الاسم، وهو جائزٌ إذا كان الاسم مشتقًّا فيه معنى الفعل، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) [الحديد: 18].