المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (178)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (178)
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ)[آل عمران:96-97].
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) البيت: قد يكونُ بيتَ سُكنى أو بيت صلاة، وهو هنا الكعبةُ المشرَّفة، و(وُضِعَ لِلنَّاسِ) بمعنى جُعِلَ، والذي جعله ووضعَه هو اللهُ تعالى، وُضع للتوحيدِ وعبادة الله، فهو أول بيتٍ جُعل لذلك، لا أول بيتٍ بُني في الأرض، والبيتُ الحرام بَناه إبراهيمُ وابنُه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، بأمرٍ من الله، فهو الواضعُ في الحقيقة، وقوله (لِلنَّاسِ) يمكنُ حمله على عمومهِ، على مَا يأتي في قولهِ: (هُدًى لِلعالمِينَ)، ويمكنُ حملهُ على أنهُ مِن العام الذِي أريدَ به الخاص، بمعنى أنهُ وُضع للمسلمينَ الذين يتوجهونَ إليه بالعبادةِ، لا إلى غيرِهم.
و(بَكَّة) اسمٌ مرادفٌ لمكة، أُبدلتْ ميمهُ باءً، والباءُ والميمُ يتعاقبانِ، كما قالُوا في النُّبَيْط والنُّمَيْط اسم موضع، ولازب ولازم، وأربد وأرمد للون الرماد، وراتب وراتم، والذي ببكةَ هو البيت، كني عنه بالموصولِ (لَلَّذِي) لتعظيمهِ وشهرته.
و(مُبَارَكًا) مِن البركة؛ وهي الزيادة في الخير، ولا تكونُ إلّا بجعل الله، يضعُها حيث يشاء، ومِن بركةِ البيتِ الحرام حرمتُه وجعله آمنًا، وتعظيم الأجور فيه لمن حجَّ أو اعتمر، أو صلَّى أو طافَ أو اعتكف أو جاوَر، وغير ذلك مِن جَلْب الخيراتِ إليه، ونحوه، والبركةُ حيث وضعَها الله تكونُ، فمِن بركة المكان الأمنُ والاستقرارُ، والإقبالُ فيه على الطاعةِ والعبادة، ومِن بركة المال كفايته، ونفقتُه في سبيل الله وطاعته، ونصرة الحقّ وأهله، وسدّ القليل منه مسدَّ الكثير، ومِن بركة العلمِ الاستقامةُ والعملُ به، ونشرهُ وانتفاع الناس به، ومن بركة الوقتِ والعمرِ عمارتُهُ بالطاعةِ والعمل النافع، وما يخلفُهُ بعد انقضائهِ من آثارٍ وعملٍ لا ينقطع، وهكذا في كل شيءٍ بركة بحسبه، وانتزاع البركةِ فقْدُ ما ذكر منه ونحوه (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) إليه توجّه قبلتهم وعبادتهم، فهو سببٌ للهدايةِ، وكان هدى للعالمين كافةً لا خاصًّا بالمسلمين؛ لكونه رمزًا لعبادة الله، يتقاطرُ الناس إليه من أنحاءِ الدنيا، ويتدافعونَ حوله قربًا منه، وشوقًا إليه، فيحرك ذلك القلوبَ -قلوب مَن يؤمنُ ومَن لا يؤمِنُ- لتتأمّلَ، وتنظرَ في أصلِ الدين، الذي يرمز إليه هذا البيت العتيق، فهو بهذا المعنى قبلةٌ للناس كافة، وبذلكَ تُحمل (لِلْعَالَمِينَ) على عمومِها، أمّا إنْ أُريدَ بهدًى للعالمين كونهُ قبلةً للصلاةِ، فتُحمل العالمينَ على المسلمينَ خاصةً، سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَال: (المَسْجِدُ الحَرَامُ)، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (المَسْجِدُ الأَقْصَى)، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً)([1])، ولا يعكّر عليه أنّ الذي بنى الكعبةَ إبراهيمُ وإسماعيلُ، والذي بَنى بيتَ المقدسِ داوودُ وسليمانُ، وبين البنائين مئاتُ السنين، قال أهلُ العلم: لأن الوضعَ -في قوله: أيّ مسجدٍ وُضعَ- غيرُ البناء، فلعلّ اللهَ عيَّنَ لإبراهيمَ عليه الصلاة والسلام موضعَ بيت المقدس عند مرورهِ بالشام، وأسسَه في موضع الصخرة التي بُني عليها فيما بعدُ الأقصَى، وكان بين الوضعين للبيت الحرام والأقصى أربعون سنة.
(فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) من فضائل هذا البيت – بالإضافة إلى أنه أول بيت وضع في الأرض للعبادة الحقة، وإقامة التوحيد – ما شرّفه الله تعالى به من الآيات البيّنات، والعلامات الواضحةِ الدالة على تشريفهِ، وهي كثيرة، منها: أنه كان معظمًا مُهابًا بين العرب في الجاهلية، مع أنهم ليسوا أهلَ تديّنٍ، حتى إنّ الواحد منهم يلقَى قاتلَ أبيه في الحرم، فلا يتعرضُ له، كما قال تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)، ومنها جعل أفئدة الناس تهوي إليه، وتشتاق إلى زيارته، ومنها ردُّ الأحباش عنه عامَ الفيل، ورميهم بحجارةٍ من سجيل، تركتهم كعصفٍ مأكولٍ؛ بقايا التبن والعود المأكولِ، ومنها تفجير عين ماءِ زمزم لإسماعيل وأمّه، في أرضٍ لا ماء فيها ولا كَلأ، ومنها ما في ماء زمزم من البركة والكثرة على مرِّ العصور، ومنها (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) ومقام إبراهيم يصحّ أن يكون معناه مكان قيامه للصلاة، وتوجهه للدعاء، وفي هذا المقام للدعاءِ من الآيات استجابةُ اللهِ تعالى دعاءَه في قوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)([2])، وقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)([3])، إلى غير ذلك، ويصحّ أن يكون مقامُ إبراهيم بمعنى أثر قدميه في الصخرِ الذي وقفَ عليه، حين رفْعه بناء الكعبة، كما ورد في الأثر عن سعيد بن جبير([4])، وهو آيات متعددة أيضًا؛ آيةُ غوصِ القدمِ في الصخر، وآيةُ بقائه ماثلًا للعيانِ على مرِّ العصور والدهور، ولم يعفُ أثره، أو يتعرض حجرُه للضياعِ([5]).
[1]) البخاري: 3366.
[2]) البقرة:126.
[3]) إبراهيم: 37.
[4]) وفي أخبار مكة للفاكهي أنه من قول أنس بن مالك t.
[5]) جملة (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) بدلُ بعضٍ من كلٍّ مِن الآيات، أو مبتدأٌ محذوف الخبر، على تقدير: منها مقامُ إبراهيم.