المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (179)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (179)
(مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران:97].
(مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)([1]) إخبارٌ عما شرّف الله تعالى به بيته الحرام في الجاهلية والإسلام، والإخبار بذلك معناه الامتنان على أهل الحرم، وتذكيرهم بنعمة الأمن الذي حُرم منه غيرهم في البلاد الأخرى، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)([2])؛ ليشكروا الله، ويعبدوه ويتركوا الشرك.
ولا ينتقضُ الامتنان بأمْن مَن دخله بمَا يتعرضُ له أهله من الفزع في بعض الأوقات، وذلك كما لم ينتقض الامتنان بفقدِ بعض نِعم الله الأخرى، كنعمة السمع والبصر بمَن ولد أعمى، أو أخرس فاقد السمع؛ لأنه عارضٌ، والغالبُ الأعم خلافه، وهو قليل، ومن القليل الذي وقع تعرض الناس في الحَرمِ للخوفِ أيام الحَجاج، وفتنة ابن الزبير، وأيام القرامطة، وأخيرًا ما حصل من الجهيمان، حين احتجز الناس فيه لعدة أيام في العصر الحديث.
والأمن الممتن به من الله هو أمنٌ عام، وحكمٌ دائم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حَرَّمَ اللهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ)([3])، لكن هذا التحريم لا يمنع إقامةَ القصاصِ والحدود، والأخذَ بالجناية فيه، فمن جَنَى وهو بداخلِهِ يقتَصّ منه اتفاقًا، ومَن جَنى خارجَه والتجأَ إليه يُقتَص منه أيضًا عند الجمهور؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلِ ابن خَطل، ففي الصحيحين: (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلْهُ)([4])، ولأنّ الحرمَ لا يُعيذُ عاصيًا، ولا فارًّا بدمٍ، ولا فارًّا بخرْبة – أي جناية – كما قال عمرو بن سعيدٍ وهو يجهزُ لقتال ابنِ الزبيرِ، ردًّا على أبي شريح الكعبي، عندما استدلَّ عليه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأن مكة أُحلتْ له ساعةً من نهار، ثم عادتْ حرمتُها كما كانت([5]).
وقال الأحناف: الآية على عمومها في تأمين مَن التجأَ إلى الحرم، ولا يقتصُّ من أحدٍ جنى خارجهُ وفرَّ إليه، بل يضيقُ عليه في التعاملِ بمنع إطعامهِ ومبايعته، حتى يلجأَ للخروجِ، فيقتصّ منه خارجه.
والاكتفاء بذكر آيتين في قوله: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) وهي جمع، وهما: مقام إبراهيم، ومَن دخله كانَ آمنًا، إمّا أن يكون من إطلاق الجمع على المثنى؛ كما في قوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)([6])، وإما اكتفاءً بذكر البعض، وطيِّ الباقي للدلالةِ على تكاثرِ الآيات، كأنه قيل: فيه آياتٌ بيناتٌ منها مقامُ إبراهيمَ، وأمنُ مَن دخَله، وكثيرٌ غيرهما، وإمَّا لأنّ كل واحدةٍ من هاتين الآيتينِ تندرجُ تحتها في التفصيلِ آياتٌ، فآية الأمنِ أَمِنَ بها الناسُ والوحوشُ والشجرُ والنباتُ، ومقامُ إبراهيم به فيه آياتٌ عديدةٌ كما تقدم عند ذكْره.
(وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) هذه الآية من ضِمن ما عظمَ الله تعالى به البيتَ الحرام، فهي معطوفةٌ على ما ذكر مِن آيات تعظيم الحرَم، فهو أولُ بيتٍ وقبلةٍ ومنارة وهدًى وبركة، وفيه آياتٌ بينات دالةٌ على تعظيمه، ومن تعظيمه أنّ الله تعالى أوجبَ على الناس حجه، وجملة (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قيد به الوجوب، الذي دلّ عليه ما قبلها، أي أنّ وجوب الحجّ ليس على جميع الناس، بل على المستطيع منهم بخاصة، والاستطاعة معناها القدرة على الفعل بوجهٍ عام: القدرة البدنية، والقدرة المالية، وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطاعة، فقال: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ)([7])، والحديث مؤولٌ بأنه بيانٌ لبعض شروطِ الاستطاعة، وهي القدرة الماليةُ دون البدنية، بدليل أنه لو فُقد أمنُ الطريقِ أو لمْ تجدِ المرأةُ محرمًا لم يجبِ الحج، ولا تكون مستطيعةً، ولذا فسَّر جماعةٌ من أهل العلم – ومنهم مالكٌ – الاستطاعةَ بالقدرة على الوصولِ إلى مكة، ومواضع النسك، وفسرها الشَّافِعِيُّ بالزاد والراحلة؛ وقوفًا عند ظاهر الحديث.
وهذا هو الموضعُ الوحيد في القرآن الدالّ على وجوب الحج على الناس، والوجوب جاءَ من لام الاستحقَاق الداخلة على لفظ الجلالة في (ولِلهِ)، ومِن (عَلَى) في قوله (على الناس) الدالة على ثبوت حق وتقرره لمن دخلت عليه اللام، وهو لفظ الجلالة، وتأكد الوجوب بإتيان الجملة في صيغة الخبر، الدال على الاستقرار والثبوت، وتأكد أيضًا بما ذيلت به الآية في قوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) فسُمّي تركُ الحج كفرًا، على وجه التغليظِ والتقبيحِ لمن اتصف به، أي أنه مِن عملِ الكَفرةِ لا المسلمين، ومن اختار لنفسهِ ذلك فقد خذلَها وغبنَها، ولن يضرَّ الله شيئًا؛ فالله غنيٌّ عن العالمينَ.
[1]) يصحُّ أن تكون جملة (ومن دخله) خبرية، ولا إشكالَ في عطفها على مقامِ إبراهيم، ويصحّ أن تكون شرطيةً، وصح العطف لأنها خبرية معنى، أي: فيه آيات بينات؛ مقامُ إبراهيم وأمنُ من دخله، وعلى المعنى الشرطي الإنشائي تكون دالةً على النهي على سفكِ الدم في الحرم.
[2]) العنكبوت: 67.
[3]) البخاري: 1349.
[4]) البخاري: 2486، ومسلم:1357.
[5]) أخبار مكة للأزرقي: 2/123.
[6]) التحريم: 4.
[7]) سنن الترمذي: 813، وسنن ابن ماجه: 2897.