هل يجوز لزوجة المفقود وأبنائه الإنفاق من ماله؟
التصرف في مال المفقود
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4526)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
رجل مفقودٌ منذ سنة تقريبًا، ولا يوجد أي خبر عنه، وفقده كان في مدينة ترهونة وقت الحرب، وله مالٌ في حسابه المصرفي، وله مرتب من الدولة، وقد طلبت جهة العمل إجراءً معيَّنًا ليقوموا بصرف المرتب له فترة ما بعد فقده، فهل يجوز لزوجته وأبنائه الإنفاق من هذا المال؛ سواء ما كان في حسابه أو ما سيتحصل عليه من المرتب؛ لحاجتهم له وفقرهم؟ علما أن المفقود لم يُعلم أنه شارك في الحرب، وأن زوجته ليس لها مصدر رزق.
الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
فالمفقود إذا لم يشارك في القتال، أو فُقد في بلاد المسلمين من غير حرب، فمالُه يبقى موقوفًا مدة التعمير، وهي سبعون سنة على المشهور، قال ابن رشد رحمه الله: ” وَأَمَّا مَالُهُ [أَيِ: الْمَفْقُودُ] فَمَوْقُوفٌ، لاَ يُورَثُ عَنْهُ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ، أَوْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ مَا لاَ يَحْيَا إِلَى مِثْلِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ سَبْعُونَ سَنَةً، وَقَالَهُ مَالِكٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الوَهَّابِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ)؛ إِذْ لاَ مَعْنَى لِقَوْلِهِ إِلَّا الإِخْبَار بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ…” [المقدمات الممهدات: 1/532].
ولزوجة المفقود الخيار بين البقاء في عصمة زوجها، أو رفع أمرها للقضاء، حتى ينظر في حالها، ويضرب القاضي للمفقود أجل أربعة أعوام، تبتدئ من حين تاريخ العجز عن البحث عنه، بشرط أن يكون للزوج الغائب مالٌ ينفق منه على الزوجة، فإن لم يكن له مالٌ طُلِّق عليه بالإعسار، ثم بعد انقضاء الأجل المضروب، وهو الأربع السنين، تعتد زوجته عدة وفاة أربعة أشهر وعشرًا، قال خليل رحمه الله: “وَلِزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ الرَّفْعُ لِلْقَاضِي، وَالْوَالِي، وَوَالِي الْمَاءِ، وَإِلَّا فَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُؤَجَّلُ الْحُرُّ أَرْبَعَ سِنِين، إنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا، وَالْعَبْدُ نِصْفُهَا، مِنَ الْعَجْزِ عَنْ خَبَرِهِ، ثُمَ اعْتَدَت: كَالْوَفَاةِ وَسَقَطَتِ بِهَا النَفَقَةِ” [مختصر خليل: 119]، قال عِلِّيش رحمه الله: “وَلَهَا عَدَمُ الرَّفْعِ وَالْبَقَاءُ فِي عِصْمَتِهِ حَتَّى يَتَّضِحَ أَمْرُهُ” [منح الجليل شرح مختصر خليل: 4/317].
والنفقة على الزوجة تكون من مال المفقود، إن كان له مالٌ ويتسع حاله لذلك، قال ابن عبد الرفيع رحمه الله: “وَيُنْفَقُ مِنْ مَالِ المَفْقُودِ عَلَى أَزْوَاجِهِ” [معين الحكام على القضايا والأحكام: 1/319].
ويتولى القاضي ومن في حكمه أمر مال المفقود، ويعيّن من ينظر فيه، لحفظه من الضياع، وينفق منه على زوجاته، وأبنائه القصر، وبناته، قال أبو سعيد البراذعي رحمه الله: “وَيَنظُرُ الإِمَامُ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ، وَيَجْمَعُهُ وَيُوقِفُهُ، كَاَن بِيَدِ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيُوَكِّلُ بِهِ مَن يَرْضَاهُ، وَإِن كَاَن فِي وَرَثَتِهِ مَن يَرَاهُ لِذَلِكَ أَهْلاً أَقَامَهُ لَهُ، وَيَنظُرُ فِي وَدَائِعِهِ وَقِرَاضِهِ، وَيَقْبِضُ دُيُونَهُ، وَلاَ يَبْرَأُ مَن دَفَع مِن غُرَمَائِهِ إِلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ وَرَثَتَهُ لَمْ يَرِثُوهُ بَعْدُ” [التهذيب: 2/432].
وعليه؛ فإن كان الحال كما ذكر، وأرادت زوجة المفقود انتظاره ولم تطلب الطلاق فيحكم لها من ماله بمقدار نفقتها ونفقة أولادها حسب المتعارف عليه لدى المحاكم، وكل ذلك يكون عن طريق المحكمة ولا تتصرف في المال من تلقاء نفسها، فإن طلبت الطلاق للضرر حكم القاضي لها بالطلاق، وتعتد الزوجة منه عدة طلاق، فتسقط حينئذٍ نفقتها، وتستمر نفقة الأولاد من مال المفقود حتى يتبين أمره، أو يبلغ الذكور ويدخل بالإناث الأزواج، قال الحطاب نقلا عن المتيطي رحمه الله: “وَيُنْفِقُ عَلَى صِغَارِ بَنِيهِ، وَأَبْكَارِ بَنَاتِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ، وَأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُمْ فِي عِلْمِ الشُّهُودِ” [مواهب الجليل في شرح مختصر خليل: 4/157]، والله أعلم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
حسن سالم الشّريف
الصّادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
25//شوال//1442هـ
06//06//2021م