بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4600)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
دخلت في تجارة المواد الغذائية مع شخصٍ، واقترضنا لذلك مبلغًا مِن المال، وخسرْنا، فطالبني صاحبُ الدَّين بماله، ولأني لم أستطعْ أن أسدد حصتي مِن الدَّين، تنازلتُ عن منزلي لصاحب الدين، وبقيتُ في المنزلِ مع أسرتي لأني لا أملكُ مسكنًا آخر، ثم اتفقتُ مع صاحبِ الدَّين بوساطة محرر عقودٍ على حصرِ الدين في 150 ألفًا، وفي حال سدادِ القيمةِ يُرجع لي المنزل، وقد تحصلت على 63 ألفًا بالاقتراضِ من الأصدقاء والأقاربِ، وبقي 87 ألفًا، حاولت جمع باقي المبلغ فلم أستطعْ، واتفق محرر العقود مع صاحبِ الدين على مهلة زمنيةٍ مدتها أربعة أشهر، فإن لم يتمّ السداد خلالَها أخرج أنا وأسرتي مِن المنزل، فهل يحقّ لي أخذُ الزكاة لسدادِ الدين؟ علما أنني لا أملك إلا مرتبًا شهريًّا، وحالتي الصحية متدهورةٌ، حيث أعاني مِن مرضٍ في الأعصابِ.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنّ الواجبَ على المسلم ألّا يُقدمَ على عملٍ حتى يعلمَ حكمَ اللهِ فيه، وإسقاط الدينِ في نظير عوضٍ يتأخّر قبضه هو من فسخ الدين بالدين على المشهور عند المالكية، لكن جوز بعض العلماء ذلك إذا كان العوض عقارا معينا؛ لأنّ الذمة لا تقبل المعيّنات، فلا يدخل في فسخ الدّين بالدين، قال ابن الحاجب: “وَفِي بَيعِهِ [أي الدّين] بِمُعيّنٍ يَتأخّرُ قَبضُه كَالدارِ الغَائبَةِ وَالمواضَعَةِ، وَالمتأَخّرِ جَذاذُهُ، قَولَانِ” قال في التوضيح: “وَالقولُ بِالجوازِ لِأَشهَبْ” [التوضيح: 5/342 وتطوّع المشتري بعد العقد بأنه متى أتى له البائع بالثمن رد المشتري له المبيع -كما هو صورة المسألة- قد أجازه المالكية؛ لأنه معروفٌ ألزم به نفسه، قال الحطاب: “قَالَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَنَّهُ إنْ جَاءَ بِالثَّمَنِ إلَى أَجَلِ كَذَا فَالْمَبِيعُ لَهُ، وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ مَتَى جَاءَهُ [أي البائع] بِالثَّمَنِ فِي خِلَالِ الْأَجَلِ، أَوْ عِنْدَ انْقِضَائِهِ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ” [تحرير الكلام: 239].
وأما إعطاء الغارم من الزكاة، فيُشترط لذلك ألّا يكونَ عنده مِن المال أو العقارِ الزائدِ على ضروراته، ما يمكّنه من سداد دينهِ إذا باعه، فإن كان بيت سكناه زائدًا عن حاجته، لم يُعطَ مِن الزكاة حتى يبيعه، ويشتري بيتًا آخر يكفيه لحاجته الضرورية فقط، ويُقضى الدّينُ مِن الفارق بين الثمنين، ثم إذا بقي عليه دينٌ بعد ذلك أُعطي مِن الزكاة، قال الدردير: “وَإِنَّمَا يُعْطَى الْمَدِينُ (إنْ أعْطى) لِرَبِّ الدَّيْنِ (مَا بِيَدِهِ مِنْ عَيْنٍ) وَفَضَلَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ (وَ) مِنْ (فَضْلِ غَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ الْعَيْنِ كَمَنْ لَهُ دَارٌ تُسَاوِي مِائَةً وَعَلَيْهِ مِائَةٌ وَتَكْفِيهِ دَارٌ بِخَمْسِينَ فَلَا يُعْطَى حَتَّى تُبَاعَ وَيُدْفَعَ الزَّائِدُ فِي دَيْنِهِ، فَلَوْ كَانَ الْفَاضِلُ يَفِي بِدَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُعْطَى بِوَصْفِ الْفَقْرِ لَا الْغُرْمِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إعْطَاءِ مَا بِيَدِهِ بِالْفِعْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَدَارُ عَلَى إعْطَائِهِ مِنْهَا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ إعْطَاءِ مَا بِيَدِهِ” [الشرح الكبير: 1/497].
عليه؛ فإنّ ما وقع من تنازل المدينِ عن المنزل، تنازلٌ صحيح، ويجوز له الأخذ من الزكاة لسدادِ باقي ثمن المنزل الذي تنازلَ عنه، أما باقي الديون فليس له الأخذُ من الزكاة لسدادها، إن كان بيتُ سكناه فيه زيادةٌ عن حاجته، بل عليه بيعه وشراءُ منزلٍ يكفيه لحاجته دون زيادة، ويقضى ما تبقّى عليه من ديون من باقي الثمن، ثم إن بقيت عليه ديون بعد ذلك أكمل الباقي من الزكاة، وإنْ سددتْ جميعُ الديون، لكن لم يعدْ عندهُ ما ينفق به على عيالهِ؛ أعطي من الزكاة بوصفِ الفقرِ، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
عبد الرحمن حسين قدوع
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
08//محرم//1443هـ
16//08//2021م