المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (207)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (207)
(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[آل عمران:177-179].
(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (اشْتَرَوُا) استبدلوا في صفقة خاسرة الكفرَ بالإيمان، أي أخذُوا الكفرَ وتركوا الإيمان، وهذا -بعدما تقدم في قوله إنهم لن يضروا الله شيئًا- تنبيهٌ مرة أخرى بأنهم لن يضروا الله شيئًا بكفرِهم، فلعلَّ الأول في نفي الضرّ عن المؤمنين خاصٌّ بضرِّ المنافقين، أو مَن ارتدُّوا بعد الإسلام، فهم الذين يسارعونَ في الكفر، وأعيد هنا ليفيد أنه حكمٌ عام لكل مَن اتصفَ بالكفر، فإنه لن يضر الله شيئًا، فالله لا يضرّه كفرُ من كفر (فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)()، فأعيد نفي الضرّ استقلالًا بعد نفيه مقيدًا، تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم، كما كرر استحقاقَهم للعذابِ الشديدِ المؤلم في قوله (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ردعًا لهم.
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ) عطفٌ على (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) فهو تابعٌ له في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، تسليةً لهم، وليبلغوا به الكافرين تخويفًا وتحذيرًا()، و(نُمْلِي لَهُمْ) نمهلُهُم ونتركهم في غيِّهم، يفعلونَ ما يشاؤون، ونمدُّ في أعمارهم، ولا نعاجلُهم بالعقوبة، والمعنى: لا يغترَّ الذين كفروا بحِلم الله وإنظاره إياهم، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، فلا يظنون ذلك خيرًا أرادَه لهم (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) بل هو شر وخذلان، فلا نفعل بهم ذلك رضًا عنهم، وإحسانًا بهم، وإنما نمهلهم استدراجًا لهم ومكرًا بهم، لما علمَه الله مِن عنادهم وصدودهم؛ لتكون عاقبتُهم ازديادَ الأوزار والآثام، والخسران والهلاك، والهوان في العذاب المقيم، فاللام في قوله (لِيَزْدَادُوا) لام العاقبة.
(مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ) لِيَذَرَ: ليترك (حَتَّى يَمِيزَ) حتى يتبينَ ويتضحَ، يقال: مازَ وميَّز وأَماز، إذا أبانَ وأوضح، وفرقَ بين ما كان مختلطًا، والخطاب في قوله (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) عام، فيشمل من أسلم ظاهرًا وباطنًا، وهم الخلصُ، الذين سبقَ التعبيرُ عنهم بالمؤمنين، ويشملُ مَن تظاهروا بالإسلام، ولم يخلصْ إيمانُهم، وهم المنافقون، وهذه فائدة الالتفات من الغيبة في قوله (لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) إلى أسلوبِ الخطابِ في قوله (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) فلم يقل: ما هم عليه، وذلك حتى لا يرجعَ الضمير على المؤمنين الخلَّص، بل قال: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي في هذا الوقت، ليشملَ الفريقين، ويرتب عليه قوله: (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فالله تبارك وتعالى أخبر أنه ترك الأمر في بدايته دون تمييزٍ وفضحٍ للمنافقين، وتحذيرٍ منهم، نظرًا للحال التي كان عليها المسلمون من الضعفِ، حتى لا يزدادَ المسلمون بالتحذيرِ من المنافقين الذين يُظهرون الاسلامَ انقسامًا وضعفًا، لكن هذا الحال أرادَ الله ألا يتركه يدومُ، بل ينتهي به إلى ما فيه صلاحُ المسلمين، فابتلاهم بالتكاليفِ التي يحصلُ بها الاختبار؛ كالجهاد وحضور الجماعات في الظلمات، ليتميز الخبيث من الطيب، والمؤمنُ من المنافق، فمِن هذه التكاليف أنهم أُمروا بالخروج للعدو، وبذلِ النفس والمال، في وقتٍ كان قد مسَّهم القرحُ والجهد، فأبَى المنافقون، وصدرَ منهم بترك الخروج والبخلِ بالمال ما دلَّ على نفاقِهم، وعدائِهم للمسلمين.
(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) عطف على الجملة قبلها (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) فالله لا يترك المسلمين مختلطين، لا يتميز منهم المحقُّ من المبطل، ولا الصادقُ من الكاذب، وكذلك الله لا يُطلعُ المؤمنين على الغيب، ومعرفة ما في القلوب، وما تنتهي إليه معاركهم، بل يتركُ الصراعَ بين الحق والباطل خاضعًا للسنن الكونية، وربطِ الأسبابِ بالمسببات، مع وعدِ المؤمنين بالنصرِ إذا عملوا بمقتضياتِ الإيمان، والأخذ بالأسباب، حتى يبلغَ التنافسُ في الخيرِ وبذل الجهد فيما ينفعُ الناس أقصَى غاياتِه، ليتميز الخبيثُ من الطيب، والمصلحُ من المفسد، والعاملُ من العاطل، فليس للناسِ أن ينتظروا أن يطلعَهم الله على الغيب، فيبنوا على الغيبِ نتائجَ أعمالهم، ويتكلوا عليه، فذلك يتنافى مع التمحيص والابتلاء، وهذا ليس على العمومِ لكل أحد (وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) يجتبي كيَصطفي، وزنًا ومعنًى، فالله تعالى يخصّ من عباده من يشاء بالرسالة والوحي، فيخبره بشيءٍ من الغيب، كما قال تعالى: (فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ)() (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فاثبتوا على الإيمانِ وداوِمُوا عليه، ولا تزلزلكم شبهاتُ المنافقين وتخذيلُ المشكِّكين (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) إنْ تثبتوا على ذلك وقتَ الفتن والمحنِ، والتمحيص والابتلاء، فسيضاعفُ الله لكم الأجور؛ لأن الأجرَ على قدْرِ المشاقّ.