طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (261)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (261)

[النساء:129-133].

(وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا)[النساء:129-130].

العدلُ الذي نفَى اللهُ تعالى أن يكونَ لأحدٍ قدرةٌ عليه، هو العدلُ الكاملُ، الذي يُقصدُ به التسوية في الميلِ القلبيِّ والمحبة والاستحسان، فهذا يتعذرُ العدلُ والتسوية فيه؛ لأنه قهريٌّ، خارجٌ عن الإرادة، فقد تتوفرُ دواعيهِ في امرأةٍ، كالحسنِ والأدبِ والذكاءِ واللَّباقةِ وخفةِ النفس، وتقلُّ في أخرى، أو تُحرمُ منه، وهذا الميلُ الذي هو لا إرادِيّ، هو المعني بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي، فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ)([1])، فالذي يَملكه الزوج، ولا عذرَ له في تركه، هو القَسْم في المبيتِ والنفقة، أمّا الميلُ القلبيُّ فهذا الذي ذكرَ القرآنُ: لن تستطيعُوه، ولو حرصتُم أن تفعلوهُ، وقد جعل القرآن مَخرجًا للأزواج، يحصلُ معه الحدُّ الأدنى من الرضَا، واستقرار الحياةِ الزوجية، في قوله بعد ذلك (فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ) وكلّ الميلِ هو ألّا يفعلَ الرجلُ مستطاعَه في العدلِ الذي يملكه، المتعلق بالقَسْم، وحسنِ العشرةِ الظاهر؛ لأنّ ما في قلبه من المحبة لا يؤثِّرُ، إنِ احتفظَ به لنفسه؛ إذ لا أحدَ يطّلعُ عليه، أما مَا عداهُ من حسن العشرةِ الظاهر، كحضورهِ وغيبتهِ وكلامِه وطلاقةِ وجهه، فيقدرُ على الكثير منه لغيرِ المحبوب، وإن لم يكنْ بالقدرِ نفسه، فيفعلُ منه المستطاعَ، ولا تحرمُ منه مَن مالَ القلبُ عنها بالكلية، لأنَّ الحرمان بالكلية هو الميلُ كلّ الميل المحظور، الذي تُتركُ معه المرأةُ كالمعلقة، لا هي ذاتُ زوجٍ، ولا هي مطلقةٌ؛ لأنه من الظلمِ، وقد ورد في السنة: (مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ)([2])، فالجزاءُ مِن جنس العمل (وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ) بالقيام بالعدلِ الظاهرِ في القسمِ والمبيت، وتأتوا فيما زادَ عليه بما استطعتم (فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) لا يؤاخذكم بما لا تملكونَه، ولا تقدرونَ عليه (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ) بعد بذلِ الوسعِ في إصلاحِ ذاتِ البَين، إن استحكمتِ الخصومةُ، وانتهيتُم إلى الفراق، ففي الفراقِ مخرجٌ وراحةٌ، يُغني الله به مِن فضلِهِ وسعَته كلَّ واحدٍ مِن الطرفينِ بزوجٍ آخر، يُعوّضه عن صاحبه، أو بطمأنينة في النفسِ وسلوَى، تنسيهِ ما فقدَه، ومَن تركَ شيئًا فأحسنَ التركَ، بأنْ كان إمساكُه بمعروف، وتسريحُه بمعروفٍ، عَوضهُ الله عندَ التركِ خيرًا مما تركَ، وكانَ اللهُ واسعًا في عطائِهِ وإغنائهِ لعبادِه، حكيمًا يفعلُ بهم ما يُصلحُهم.

(وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا)[النساء:131-132].

جملة (وَلِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) كالدليل على قوله قبلَها (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فإنّ مَن له ملكُ السماواتِ والأرضِ لا يعجزُه أن يغنيهما، ولا يعجزه شيءٌ، فكلُّ ما في السماواتِ والأرض ملكُه، يتصرفُ فيه كيفَ يشاءُ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا) الوصيةُ: طلب ما يُرجى نفعُه وخيرُه، مما قلّ ودلَّ، ومنه قولُ الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: غَيْرَكَ، قَالَ قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثم اسْتَقِمْ)([3]) (الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) ألْ في (الْكِتَابِ) للجنس، فيراد به العموم: كل الذين أوتُوا الكتب، وعلى رأسِ الكتبِ التي قبلنا التوراةُ والإنجيل، ومَن أُوتوهُما، فيدخلُ فيمَن قبلنا اليهودُ والنصارى، وكل من أُوتي كتابًا (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) (أَن) يصحُّ أن تكون تفسيرية؛ لأن الوصيةَ فيها معنى القولِ دونَ حروفه، ويكون قوله (اتَّقُوا اللهَ) مِن جملة مقولِ القول، أي: فوصيَّتُنا لهم قولنا (اتَّقُوا اللهَ) ويصحُّ أن تكونَ (أنْ) مصدرية، فتكون كما في أمثالها هيَ مع الفعلِ في محلِّ جر، والجار محذوفٌ، أو محلِّ نصبٍ مفعول، أي: بأنِ اتقُوا الله، أو وصيتُنا تقوَى الله، والتقوى: امتثالُ الأوامر الشرعية، وعلى رأسِها الإيمان، واجتنابُ النّواهي، وفي مقدمتِها الشركُ (وَإِن تَكْفُرُواْ) عطفٌ على (وَصَّيْنَا) بتقدير: وقلنَا لهم إنْ تكفُروا، والكُفر المحذَّر منهُ في الآيةِ يعُمُّ كفرَ الشركِ وكفرَ النعمةِ، وقوله (فَإِنَّ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) يعني: إنْ كفرتُم، فكفركُم لن يضرَّ أحدًا غيركم، كما قال تعالى: (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)([4])، ولن يضرَّ اللهَ شيئًا، فإنه غنيٌّ عن العالمين، حميدٌ محمودٌ لذاته، مُستحِقٌّ للحمدِ وإنْ لم تحمدُوه، وكررَ سبحانه إخبارَه بأن له ملكَ السماوات والأرض؛ ليرتبَ عليه قوله (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا) فإن مَن ملكَ لا يحوج مَن تفرَّقَا، واستغنيَا به، ولا غيرهما ممن توكلَ عليه، وعملَ بما وصّاه اللهُ به، مِن الإيمانِ والتقوى، واجتنبَ الشركَ وكفرانَ النِّعم، مَن توكلَ عليه على هذا النحوِ، لا يحوّجه إلى خلقهِ، فإنه استندَ وتوكلَ على مالكِ الملك، والآخذ بناصيةِ الخلقِ.

(إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا)[النساء:133].

هذا متفرعٌ عما دلَّ عليه ما تقدمَ، مِن كاملِ قدرته وواسع ملكه؛ للتخويفِ مِن عاقبة الكفرانِ والجحود، فقوله (يُذْهِبْكُمْ) مِن أَذهب الشيءَ، إذَا أزاله وأفناه، أي: إن يشأْ أفناكُم، فلا يُبقِي منكم أحَدًا، ومفعولُ (يَشَأْ) محذوفٌ، دلَّ عليه ما بعده، إِنْ يشأْ إذهابَكم يُذهبْكم، والنداء (أَيُّهَا النَّاسُ) مُوجَّهٌ لكل المخاطَبين بالقرآن (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي بناسٍ آخرين، يعبدونَ الله، يُحبهم ويُحبونه، كمَا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)([5])، وكما قال في الآية الأخرى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)([6])، فقوله (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يكونونَ مِن بني آدمَ، مِن جنسِ الإنس، وهو ما يقتضيهِ التعبيرُ بآخرين، فإنَّ كثيرًا من أهلِ اللغةِ اشترطُوا في لفظ: آخَر وأخْرى، ومثله: بقيَّة، وسائِر، وبعض، أنه إذا أُتي بها في الكلامِ صفةً لشيءٍ، اشترطوا أن يكونَ موصوفُها مِن جنسِ ما قبله، كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ)([7])، فمناة الأخرى: صنمٌ من الأصنام، مِن جنسِ ما قبلها، وهي اللَّات والعزَّى، فتقول: أَتاني رجلٌ، وأَتاك آخرُ، أي أَتاك رجلٌ آخرُ، ولو قلت: أَتاني رجلٌ وامرأةٌ أخرى، أو ركبتُ سيارةً وطائرةً أخرى، لم يكن كلامًا إلَّا بتأويلِ أنّها مركوبٌ مثلًا، ولم يشترطْ هذا الشرطَ آخرونَ مِن أهلِ اللغة، فجوَّزوا أن يكونَ الموصوفُ بآخر وأخرَى من غيرِ جنسِ ما قبلَه، وعليه؛ فقوله في الآية (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يمكن أن يُفسَّر: مِن بني آدم أو من غيرهم، والاعتماد في مثل هذا على القرائِنِ، ولقد قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الآخَرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ)([8])، وأرادَ بذلكَ نفسَه، جردَ منها شخصًا آخرَ؛ لأنه لم يردْ أن يَنسبَ المعصية لنفسِهِ تصريحًا، فلم يذكرْ معطوفًا عليه أصلًا، لا مِن جنسه، ولا من غيره (وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) بالغَ القدرةِ، لا يُعجزُهُ شيءٌ.

[1]) أبو داود:2134.

[2]) أبو داود:2133.

[3]) مسلم:68.

[4]) فاطر:39.

[5]) المائدة:54.

[6]) محمد:38.

[7]) النجم:19،20.

[8]) البخاري:1937.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق