المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (276)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (276)
[سورة المائدة: 3].(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3].
آية (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ) قيل: نزلتْ يوم فتحِ مكة، والأرجح أنها نزلت مع الآيةِ التي بعدَها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يوم عرفة في حجة الوداع، و(أَل) في اليوم يمكنُ أن تكونَ للعهد، وهو يوم عرفةَ بعينه، الذي نزلت فيه الآية، ويمكن أن تكون (أل) لجنس اليوم، تصلحُ لكل يوم، لا يوم بعينه، فيطلق اليوم على الزمن الحاضر وما بعده، أي: اليوم علَا شأنُ دينكم، وأظهره اللهُ ومكَّن له، ويئسَ الذينَ كفروا أن يردُّوكم عنه، ويغلبوكم عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)([1]) (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) فلا تخافوهُم وَخَافُون، وقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي اكتملتْ لكم عقائدُهُ وشرائعُه وآدابُه وأحكامُه، وتقررتْ أصولُه وفروعُه في نصوصِ وحيِه، وما تضمنتهُ من كلياتٍ وقواعدَ عامة، تلبِّي حاجياتِ الناس، وما يكفي لكلِّ جديد، ويغني عن كلِّ مستورد، وتجعله صالحًا لكل زمانٍ ومكانٍ، كما قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)([2])، وقال: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)([3])، وقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ) ليس المعنى أنّ الدِّين قبل نزولِ هذه الآية كان ناقصًا، بل كانَ كاملًا، وكماله في كلِّ مرحلة من مراحله بما يناسبُها، ويشرعُ لهم من أحكامه ما يطيقونَ، فهو كاملٌ بالنسبةِ إليهم في ذلك الوقتِ، وكماله في يوم نزولِ الآية هو كمالٌ في ذلك الوقت، ولما يُستقبلُ من الزمان، إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها، قال صلى الله عليه وسلم عن القرآن: (مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)([4]) (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بالنصرِ والفتحِ والتمكينِ، وكسرِ شوكةِ المشركين بإعلاءِ كلمة الدِّين وأهله، حيث دانتْ للمسلمين في وقتِ نزولِ الآية معظمُ جزيرةِ العرب، وفتحتْ لهم مكة، التي خرجوا منها متخفينَ، وصارُوا فيها أعزاءَ بعزةِ اللهِ، مالكينَ، وعَدُوُّهُم من الطلقاءِ ممنونٌ عليه، يطلبُ العفوَ والأمان، وفي يوم عرفة في حجة الوداعِ، يوم نزول الآية، هناكَ مظهرٌ آخرُ مِن مظاهرِ الاعتزازِ والتمكينِ والمنة، فقد صَفَت مكة كلُّها لهم، ومُنعَ المشركون، فلم يحجَّ معهم مشركٌ (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) واخترته لكم من دون الأديانِ الأخرى، ورِضَى اللهِ لهذه الأمة الإسلامَ دينًا لم يحصلْ في ذلك اليوم، وإنما كان قبلَ ذلك في علمِ الله، والذي حصلَ في يوم عرفةَ هو أنه أظهرَ لهم ذلك، وأعلمهم به.
(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المائدة:33].
الفاء في (فَمَنِ اضْطُرَّ) للتفريع؛ تفريع عما تقدم مما يُتلى من المحرّمات، وهي الميتةُ وما بعدها، فتحريمُ أكل هذه المحرمات هو في حالِ الاختيار، أمَّا مَن اضطُر إلى شيءٍ من ذلك في المخمصة، غير باغٍ ولا متعدٍّ، فلا حرجَ عليه، وما ذكر بعد المحرمات مِن إتمام النعمة وإظهار الدين هو اعتراضٌ؛ للتذكير بنعمة التمكينِ ونصرةِ الإسلام، فإنّ التذكيرَ بالنعم يُسهِّلُ الرضى بالتكاليف، التي حرَّمت عليهم ما ألفوهُ في مطاعمهم وعاداتهم.
ويمكن جعل فاء (فَمَنِ اضْطُرَّ) للعطف على جملة (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) من عطف الخاصِّ على العام، فإن إكمالَ الدين نعمةٌ عامةٌ، ونعمةُ رفع الحرجِ عن المضطر في المخمصةِ نعمةٌ عظيمةٌ أخصّ منها، فهي لحفظِ حياتِهم، وبخاصة أنهم كانوا معرّضين لفقدِ الزاد، في أوقات الجدبِ والأسفار وانقطاع العمران، في باديتهم المترامية، و(اضْطُرّ) فعلٌ يلازمُ البناء للمجهولِ في أكثر استعمالاته، والمضطرُّ: مَن حلَّت به ضرورة، والضرورة بمعناها الشرعي: هي ما تعرض حياة صاحبها للهلاك، أو لفقدِ حاسةٍ من حواسه، والمخمصة: المجاعة، من خمَص البطن: خواؤها وفراغُها من الطعام ، ومتجانف من الجنف، وهو الميل، أي: غير مائل لما حرم اللهُ من الميتةِ وما عطف عليها، بزيادة التناولِ على قدر الحاجة، أو ميلًا إلى المحرم تشهيًا، أو لملاءمةٍ فيه، مثل كونِه أرخصَ أو نحو ذلك، كما قال في الآية الأخرى: (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ)([5]) (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوزُ عن المضطر، إذْ لا يكلفُ اللهُ نفسًا إلا وسعَهَا.
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
بعد أن ذكرت المحرمات، سأل الناس عن الحلال، فقالوا: ماذَا أحل لهم، أي: ما الذي أُحل لهم من المطاعم؛ لأن سياق الكلام من أول السورة عن المطعومات، وقوله (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) هو حكاية لسؤالهم، وإلّا فإنّ مَن يسألون يقولون: ماذا أحل لنا؟، لا ماذا أحل لهم؟، ومعنى السؤال: هل كل ما عدَا المذكور في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وما بعدها هو حلال، أم فيه تفصيل؟ فأجابهم الله تعالى بما يلهمهم إلى قاعدة عامة تغنيهم عن كثير من السؤال عن الجزئيات، فقال: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) فالطيب وصف لما أحله الله، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، فيكون الطيب كله حلال، وضده وهو الخبيث كله حرام، وقد صرح القرآن بهذا في قوله (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) لكن وصف الشيء بأنه طيب أو خبيث يختلف اجتهاد الناس فيه، فإذا قلنا: الطيب ما استطابته الطباع السليمة واستحسنته، ورأته ملائما، والخبيث ما استقذرته، فقد يستحسن شيء عند قوم، ولا يستحسن عند آخرين، فبعض الأمم تأكل الحشرات والثعابين والديدان، بل بعضها يأكل الفأر، وهو عند غيرهم خبيث مستقذر، وحتى لو اتفقوا على استحسان شيء، فقد لا يكون مأمون العاقبة، ويكون ضارا، والشريعة لا تأتي بالمضار، ولذلك عندما سئل مالك رحمه الله عن الطيّب قال: “الطَّيِّبَاتُ الْحَلَالُ”()[6]، فأحالهم على أمر منضبط مأمون، لا ينخرم، إذ لا شك أن ما أحله الله كله طيب، فالصحيح أن الطيب ما كان حلالا، وحتى على هذا التفسير للطيب بأنه الحلال، فهو لايزال عاما، لأن كل ما سكت عنه الشرع ولم يحرمه فهو حلال مأذون فيه بالشرع، ويمكن أن يقال إن من علامات الطيب الحلال استلذاذه، واستحسان العقول السليمة له، مع سلامة العاقبة، فقد يكون الشيء مستلذا وخيم العاقبة، كالسم في العسل، فإنه لا يكون حلالا، ولما كان المحرم قليل النوع ذكره الله في الآيات السابقة بالعدد، فقال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلى آخره؛ لأنه محصور محدود، أما الحلال فلأنه واسع كثير غير محصور وهو الأصل في الأشياء قال الله عنه في معرض الامتنان: (هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا)()[7]، ولذلك كان الجواب عن الحلال في قوله: (يسألونك ماذا أحل لهم) ضبطه بالوصف، الذي يأتي على جميع أنواعه، دون ذكر أعداده وقوله: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) عطف على الطيبات، أي: أحل لكم الطيبات وأحل لكم صيد الذي علمتموه من الجوارح، كالكلاب ونحوها، وذكر الصيد هنا ضمن ما أحله الله؛ لاشتباهه بالمحرم في قوله (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ)، فـ(مَا) في (مَا عَلَّمْتُمْ) موصولة، وفاء (فَكُلُوا) للتفريع[8]، والجوارح السباع من ذوات الأربع، والطيور المعلمة، وهي في اللغة بمعنى الكواسب، جمع كاسب، وهو من يسعى ويكسب الرزق لغيره، ومنه قولهم فلان جارحة أهله، أي كاسبهم، يسعى عليهم في تحصيل رزقهم، ومكلبين جمع مكلِّب، وهو معلم الكلاب، ويسمى كَلَّابا نسبة إلى الكَلب،أي: فالصيد الذي أمسكه لكم الكلب المعلَّم حلال، وكل من (مُكَلِّبِينَ) و (تعلمونهن) منصوب على الحال من الضمير في (عَلَّمْتُمْ)، وفي تكرير الحال ما يشير إلى أن من طلب علما ينبغي أن يأخذه عن معلم متقن؛ لأنه المعتد بتعليمه، أي: وما علمتم من السباع الجوارح حال كونكم معلمين إياها (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ)، ويكون الكلب معلما بحيث إذا أُشلي – أي أُغري – ينشلي ويشتد وراء الفريسة، والإغراء يكون بإرسال الجارح من يد صاحبه إذا كان مشدودا بيده، وإذا لم يكن مشدودا يكون بانطلاقه إذا أمره، وبانكفافه إذا دعاه، وإذا لحق بالصيد فحبسه أو أصابه أمسكه على صاحبه، ولا يأكله، ويُرضى في الطير بما دون ذلك من التعليم، ونُسب التعليم إلى الكلاب دون غيرها من السباع؛ لأن أكثر ما يقع من التعليم يكون للكلاب دون سواها، كالفهد والبازي والصقور، أو لأنَّ الكلب يطلق على كل سَبُع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه على عُتبة بن أبي لهب، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك)()[9]، فأكله الأسد (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) تفريع على الإذن بالأكل من الصيد، المعطوف على الطيبات[10]، وقوله (أَمْسَكْنَ) يشعر بأن الكلب المعلَّم لا يأكل من الصيد، واختلف العلماء إذا أكل منه، فقيل: لا يؤكل، قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ)()[11]، ولأن أكله منه يدل على أنه غير معلم، وقال مالك رحمه الله: “يؤكل وإن أكل منه”، ويذكى إن وجد حيًّا، لحديث أبي ثعلبة الخشني، وفيه: (وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ)()[12]، وإن وجده الصائد مقتولا بفعل الجارح فقتل الجارح ذكاة له، وهذه فائدة التعليم، وقوله:(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) يدل على طلب ذكر اسم الله على الجارح بأن يقول الصائد: “بسم الله” عند إرسال الجارح، وعلى المصيد عند ذكاته، إن وجد حيّا[13]، (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) من كان سريعَ الحساب يُخشى عقابه؛ لأنه يحاسب على الصغير والكبير، فلا يفوته شيء عند الحساب.
[1]) مسلم: 2812.
[2]) النحل:89.
[3]) الأنعام: 38.
[4]) البخاري: 6846.
[5]) الأنعام:145.
[6]) التحرير والتنوير: 6/11.
[7]) البقرة:29.
[8] – وعلى أن (مَا) في (ما علمتم) شرطية تكون (وَمَا عَلَّمْتُمْ) معطوفة على جملة (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات) من عطف الجمل، وجوابها (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)
[9]) السنن الكبرى للبيهقي: 10052.
[10] ) – النون في أمسكن ضمير جمع المؤنث، يعود إلى الجوارح المعلمة؛ لأن جمع التكسير لما لا يعقل يعامل معاملة جمع المؤنث.
[11]) البخاري: 173.
[12] ) أبو داود: 2852.
[13] ) ففي ضمير (عليه) في قوله (واذكروا اسم الله عليه) استخدام، بعوده إلى أمرين، هما: الإرسال وعند الذبح إن وجد حيا، كلٌّ منهما مقصود أن يعود عليه.