المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 18- تابع سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
– الحلقة (18).
سورة البقرة:
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ):
(مَثلُهمْ): المَثَل والمِثل والمَثيل؛ مثلُ الشَّبَه والشِّبهِ والشَّبيه وزنًا ومعنى، والمَثَلُ: القولُ السائرُ، الذي يُشَبَّه مضربُه، وهو المناسبة التي يذكر فيها، بموردِه، وهو أصل وروده لأول مرة في كلام العرب.
(الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)؛ (الّذِي) اسمٌ موصول، أصله يقعُ على الواحدِ، وقد يراد به الجنس فيقع على الجمعِ، كما في قوله تعالى: (والذى جَاءَ بالصدقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتقُونَ)[1]، فالموصول هنا عامّ، في كلّ مَن دَعا إلى توحيدِ الله، ولِذا أخبر عنه بالجمع: (أُولَئِكَ همُ المتّقونَ)، وفي قوله: (الّذِي استَوْقَدَ نَارًا) يحتملُ أن يكونَ الموصول للواحدِ، وهو الذِي استوقَدَ نارًا لنفسه، فلمّا أضاءَت نارُه عليهِ وعلى غيرِه، ذَهَبَ اللهُ بنورِهم جميعًا، ويحتملُ أن يكونَ الذي استوقدَ النارَ جماعة، فيكون (الذي) للجمع. و(اسْتَوْقَدَ): بمعنى أَوقَدَ، فتكونُ السين والتاء فيه للتأكيدِ، لا للطلبِ، ويصحّ أن تكونَ للطلب، وذلك يقتضي حاجةَ المستوقدِ للنارِ مِن غيرِه، فانطِفاؤُها عنهُ يكونُ أشدّ عليه.
(نَارًا)؛ النارُ معروفةٌ، لفظُها مؤنثٌ، قالوا في تعريفها: جوهرٌ مضيءٌ مُحرقٌ حَارّ، أعَاذنا الله منها بكرمِه.
(أَضَاءَتْ)؛ يُقالُ: ضَاءَ فيكون الفعل لازما، وأَضاءَ فيكون متعديًا، وقرئَ بهما.
(مَا حَولَه)، ما يحوطُ ويدورُ به، ومنه قيلَ للعامِ حولٌ؛ لأنّه يدورُ ويرجعُ.
(ذَهَبَ): يُقال: ذَهبَ وأذْهَب، مِن الذهابِ، وهو زوال الشيءِ.
(بنورهم): ضَوئهم، والنور نقيضُ الظلمةِ، والباءُ فيه للمصاحبةِ، يقال: ذهبَ به، إذا استصْحبَه ومضَى به معه؛ كقولِه تعالى عَن إخوةِ يوسف: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) أي أخذوه واستصحبوه معهم.
وقال: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِم)، ولمْ يقل: ضوئِهم؛ لأنّ ذهابَ النورِ أبلغُ مِن ذهابِ الضوءِ، فإن النور أضعف إنارةً مِن الضوءِ، والضوءُ أقوى، ونفي الأضعف وهو النور، يستدعِي نفي الأقوى وهو الضوءُ، بخلاف العكس.
و(ذَهبَ اللهُ بنورِهم)، معناه أمسَكه وأخذَه منهم هو سبحانه، لا غيرُه، ومَا يُمسِكه اللهُ فلا مرسلَ لهُ مِن بعدِه، وهو معنى المصاحبة في حقّه تعالى، ولذا كان (ذَهَبَ اللهُ بنورِهِم)، أبلغ في أخذِه مِن أذهبَ اللهُ نورَهم، التِي تعنِي مجردَ إزالةِ نورِهم، وجعلِه ذاهبًا.
ولمّا كانَ النورُ مُحَبّبا مِن حيثُ الفهم والتصور عندَ الناسِ، استُحسنت المصاحبةُ بالباء في إذهابِه، بخلافِ الرجسِ في قولِه تعالى: (لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البَيتِ)[2]، فإنّه عُدّي الفعلُ فيه بنفسِه دون باءِ المصاحبةِ؛ لأنّه مذمومٌ طبعًا.
(وَتَرَكَهُم): صَيّرَهم.
(فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبصِرُونَ): الظلمةُ عدمُ النورِ وانطِماسُه، وجُمِعت ونُكّرت وعُقبتْ بقولِه: (لَا يُبصِرُونَ)؛ ليدلّ على أنّها ظلمةٌ بَهيمةٌ مضاعفةٌ، مركبة بعضها فوقَ بعضٍ، لا يتراءَى فيها شَبحان.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ).
(صُمٌّ) خبرُ مبتدأ محذوف ، تقديره هم: وحَسُن جعل المبتدأ (هم) محذوفًا؛ لأنّ الخبرَ لا يصلحُ إلا بتقديره كذلك، أي: هم صمّ بكمٌ عميٌ، على معنى تعدد الأخبار، وأنّ كل واحد من المنافقين كالأصم الأبكم الأعمى، لا أنّ بعضَهم هكَذا وبعضُهم هكذا؛ فالثلاثةَ أخبارٌ متواليةٌ عن شيءٍ واحد، هم المنافقون.
وأصلُ الصَّمَم في الشيءِ انسدادُه، فلا يكونُ مجوَّفًا، والأصمُّ مَن انسدّت مسامعُه.
(بُكْمٌ): الأبكمُ هو الذي لا ينطقُ ولا يفهمُ، فإذا كان يفهمُ ولا ينطقُ فهو الأخرسُ، وقيل: هما سَواء.
(عُمْيٌ): العَمَى ذهابُ البصرِ، وعَمِيَ فلانٌ فهو أعمَى؛ ذهبَ بصرُه، وعمِيَ عليه الأمرُ: التَبسَ، ومنه: (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ)[3]، والمراد: عَمى أبصارِ المنافقينَ، وصَمَم آذانِهم عنِ الحق، والسكوت عنه، وخرسُ ألسنتِهم عن التكلمِ به، وإقرار خلافِه، وإلا فهم في الحس يسمعونَ، ويتكلمونَ، ويبصرونَ، لكن لمّا لم ينتفعُوا بذلك عُدّوا هُم ومَن فقدَ حوَاسّه سواءً، قال تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا)[4].
(فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ): الرجوعُ العودُ إلى مكانٍ تُركَ، والمرادُ اليأسُ مِن طمع رجوعِهم إلى الحقّ، واهتدائِهم إليه، بسبب عمى بصائرهم، فلا يفقهون.
وفي قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)، تشبيهٌ بليغٌ؛ شبهَ فيه المنافق – الذي يتحصلُ على مكاسبَ عاجلةٍ في الدنيا، سرعانَ ما تزولُ وتعقبُها الحسرةُ والندم – شبه حاله بحالِ من أوقدَ نارًا في ظلمة حالكة، سرعانَ ما انطفأت عليه، وتركته في حيرةٍ ووحشةٍ، ووجهُ الشبه سرعةُ ذهابِ الفرحةِ عنهما، والبقاء في الوحشة والحيرة.
وهو مِن تشبيهِ التمثيل لحالِ المنافقينَ، الذين يتظاهرونَ بالإيمانِ والنصح للمسلمين، ونصرةِ أهل الحق، ويُخفونَ ما هم عليه من الغش والخداعِ والمكر؛ ليتحصلوا – بهذا التستر والتظاهر الكاذب بالحرص – على بعضِ مكاسبِ الدنيا، التي سرعانَ ما تنقطعُ وتضمحلّ، ويعقبها الحسرة والندم، تمثيلُ حالِهم هذه بتفاصيلِها، بحالِ مَن هو في ظلمةٍ موحشة، وأوقدَ نارًا، فاستضاءَ بنورها، ورأى ما حَولَه، واستأنسَ بها، واطمأنّ إليها، وأمِن بُرهةً مما يحذرُ منه، فلم يلبثْ أنِ انطفأَ نورُه فجأة، وخَمدت نارُه، وتركتْه في ظلمةٍ أشد وحشة وحَلكة.
وكذلك هو حالُ المنافقين في القيامةِ، حالُ من يبحثُ عن نورِه، وفجأة لا يجدُه: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)[5].
وفي ضربِ الأمثالِ مِن التقريبِ للمعانِي وتبيينِ الحقائقِ، وتصويرِ المعقولِ مِنها بالمحسوسِ، ما يكشفُ مستورَها، ويوضحُ مكنونَها أتمّ توضيحٍ: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلّا الْعَالِمُونَ)[6].