المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (298)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة – 298
[سورة المائدة: 67](يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ)(67)
الخطاب في (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) للنبي صلى الله عليه وسلم، يأمره الله بالمضي في تبليغ ما أنزل إليه، دون أي اكتراث بعداوة أحد له، رضي مَن رضيَ، وكرهَ مَن كره، ويشُدّ أَزْره، ويعدُهُ بالحفظ والعصمة من الناس، فكفاه هم حراسةِ نفسهِ، ليتفرغ لدعوة ربه، وقد ورد في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحرس، حتى نزلَ قول الله تعالى: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)([1]).
وقوله (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي داوم على التبليغ والمضي في ذلك، فهو كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)([2])، ذلك أنّ هذه الآية لم تنزل في أول البعثة، عندما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)([3])، وإنما نزلت متأخرة، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاني في المدينة من اليهود الأمَرَّين، وأرادوا منه في أكثر مِن مناسبة أنْ يوافقَهم على تحريفهم لكتابهم، على خلاف حكم القرآن، ومعنى (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) أنك إن لم تبلغ ما أمرت به كاملًا، فكأنك لم تبلغ منه شيئًا، فحذف متعلق فعل التبليغ من الجانبين؛ ليدل على أن العموم في كل منهما مقصود، وإذا نقص منه شيئًا فكأنه لم يبلغ منه شيئًا، وهذا التعميم ضروري لصحة الكلام، فبدونه يتّحدُ الشرطُ والجزاء، ويصير المعنى: فإن لم تبلغْ فما بلغتَ، وهذا غير مفيدٍ، إلّا أنْ يُحمل على المبالغة، أي فما بلّغتَ التبليغَ الذي يحققُ المراد، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)([4])، وقولهم: شِعْري شِعْرِي، و(رِسَالَاتِهِ) جمعٌ مضاف من صيغ العموم، واحده رسالة، وهي ما يرسل به، والعموم في (رسالاته) يدلُّ على أنه إذا ترك شيئًا مما أنزل إليه لم يبلغهُ، كأنه لم يبلغ رسالاتِ ربه بكامِلِها، فترْك البعض كترك الكلِّ، وعلى قراءة رسالته بالإفراد فهو أيضا مفردٌ مضافٌ يفيدُ العموم، وجمعت الرسالاتُ – على قراءة الجمع – وهي رسالةٌ واحدةٌ، من جهةِ ما تضمنته مِن فروع الشريعة الكثيرة، أو من جهة أنّ رسالات الأنبياء جميعًا هي واحدة، فيما يتعلق بالتوحيدِ وأصول الدين، فما يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان هو تبليغٌ لجميع رسالات الأنبياء، ولما كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أنه يبادر بالتبليغِ ولا يتأخر، جيءَ في الشرط بحرف إنْ في قوله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) الدالة على أن احتمال وقوع عدم التبليغ بعيدٌ، قالَ عُثمَانُ رضي الله عنه: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ، فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: ضَعْ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا)([5])، وقد نزلت عليه سورة الأَنْعَام كلها جملةً ليلًا، فأمر بها فكتبت في ليلتها، واستُدل بالآية في قوله (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئًا من الوحي يخصّ به أهل بيته، كما تزعم الشيعة، و(يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) يمنعك، وعصمته من الناس حفظ الله له من القتل، وقد تكفل الله له بذلك، فقد دبر اليهود قتله، وحاولوا أن يلقوا عليه الرَّحى من فوق السطح، فأوحى الله إليه بأن يخرجَ من بينهم، ودسُّوا له السم في الطعام، واخترطَ أعرابي سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معلق في الشجرة، في غزوة ذات الرقاعِ، وقال له: مَن يمنعكَ منِّي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الله، فسقط السيف من يده([6])، ولا يدخلُ في عصمته من الناس صنوفُ الأذى الأخرى دونَ القتل، فقد كسرت رَباعيَّته، وشجَّ وجهُه الشريف في أُحد، ورمَوه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه صلى الله عليه وسلم، فحفظ الله له نفسَه ليبلغَ رسالات ربه، وأصابه ما دون ذلك مِن الأذى؛ ليبلغ به مَبلغ مَن ابتُلي في ذاتِ الله فصبر، ولذا جاء في الصحيح: (أَشَدّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاء، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)([7]).
ولا يعكرُ على أمره بالتبليغ في هذه الآية أنها جاءتْ في سورة المائدة، التي هي من آخر القرآن نزولًا، والأمر بالتبليغ كان في بداية الدعوة، يُجاب عنه بأن سياقَ هذه الآية جاء في مقارعة اليهود، وكشْفِ مخازيهم وفضائحهم، وعدائِهم لله ورسوله، فآياتُ السورة قبل هذه الآية حربٌ على أعداء اللهِ من اليهود، الذين سَلكوا كلّ مَسلك، يلحُّون في طلبِ الملاينةِ معهم، وموافقتهم ولو في بعضِ ما يريدون، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رفيقًا، يحبُّ الرفقَ في الأمور كلها، فأمَره الله تعالى في هذا البابِ أمرًا واضحًا صارمًا، بعد أن ناداه بأشرفِ أوصافهِ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وأنه إن لم يفعلْ ويبلغْه كاملًا، بأن جاملَهم ولو في شيء منه؛ فما بلغَ رسالاتِه، ومعلومٌ أنّ آياتِ السورة الواحدةِ ترتيبُها في القراءة ليسَ على ترتيبها في النزول، فقد تكونُ هذه الآية نزلت عقب ما طلبه اليهودُ من النبي صلى الله عليه وسلم، أنْ يجاملَهم فيه، ويحكمَ بينهم فيما اختلفوا فيه على ما أرادوه، فجاءت في سياق الرد عليهم، وتيئيسهم، وشد أزر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)([8])، وما تلاه من الآيات، ولأنّ الله قضى لهم وحكم عليهم بالكفر؛ لكثرةِ عداوتِهم لله ورسوله، لذا هم لا يتوقفون في عداوتهم عندَ حدٍّ، فاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.
[1]) أسباب النزول للواحدي: 1/ 202.
[2]) النساء: 136.
[3]) الحجر: 94.
[4]) البخاري: 54، مسلم: 155.
[5]) أبوداود: 786.
[6]) البخاري: 4135، مسلم: 6014.
[7]) مسند أحمد: 27079.
[8]) المائدة: 41.