المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة (299)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة – 299
[سورة المائدة: 68 – 70](قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ)(68)
هذا بيانٌ لبعضِ ما أُمر به النبي صلى الله عليه وسلم من التبليغ، مما يرجحُ أنّ أهلَ الكتاب مقصودون قصدًا أوليًّا بالتبليغ في قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) فأهلُ الكتابِ في قوله (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) هم اليهود والنصارى، و(شَيْءٍ) نكرة في سياق النفي، تعم الشيء المقصود نفيه، وهو التدين، وكل ما له علاقة بكتابهم وعباداتهم، أي: لستم على شيء من التدين الذي تزعمونه (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) والأمر بإقامتهما عند نزول القرآن، يعني الاعتراف بما جاء فيهما من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان بما جاء فيهما من التوحيد قبل التحريف، وكذلك الإيمان بما أنزل إليهم من ربهم من القرآن، الذي جاء به الإسلام، ونسخ ما كان قبله من الأديان، وكان كل من اليهود والنصارى بدّل كتابه، وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يعلمون صدقه، وأنكر اليهود الإنجيل، وكفروا بعيسى عليه السلام، فمِن أجلِ هذه الكفريات وغيرها هم ليسوا على شيء، وقوله (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) تقدم نظيره قبل قليل، فهم لقسوة قلوبهم لا يزدادون بما ينزل من آيات القرآن والبراهين إلا طغيانًا، ومجاوزةً للحد في العناد والكفر (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) إذا علمت ذلك مِن عنادِهم، مما هو مِن الكفر البيِّن، فلا تأسَ ولا تحزنْ، ولا تأسفْ عليهم؛ لأنهم من القوم الكافرين، فلا يستحقون ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفُّهم، ويتمنى ألا تكون نهايتهم الكفر.
(إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ)(69)
بعد أن أخبر الله تعالى أن أهل الكتَاب وقت نزول القرآن ليسوا على شيء، إذا لم يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فكأنَّ سائلا يسأل: وما مصير أسلافهم ممن مات قبل ذلك؟ فجاءت الآية لبيان حالهم، وحال بعض أهل الأديان غيرهم.
والمعنى: إن الذين آمنوا وداموا على إيمانهم – وهم المسلمون – ناجون، والذين هادوا والنصارى الذين حرفوا كتبهم والصابُون الذين عبدوا الكواكب، مَن آمن منهم بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وعمل صالحًا، فلا خوف عليهم، ولاهم يحزنون.
فقوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) هم المسلمون، وهي جملة مبتدأة مستقلة، مركبة مِن إنّ واسمها، وخبرها محذوف، تقديره: ناجونَ، دلّ عليه ما بعده، وهو قوله (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) على حد قول القائل:
نحنُ بمَا عندنَا وأنتَ بمَا عنـــدَكَ راضٍ والرأْيُ مختَلِفُ
أي نحن بما عندنا راضون، وأنت راضٍ([1]).
(لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمۡ رُسُلٗاۖ كُلَّمَا جَآءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُهُمۡ فَرِيقٗا كَذَّبُواْ وَفَرِيقٗا يَقۡتُلُونَ)(70)
الميثاق في قوله (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ) العهد الذي أخذه الله على (بَنِي إِسْرَائِيلَ) بالإيمان، وقد تقدم مرارا، وقوله (وَأَرْسَلْنَا إليهمْ رُسُلًا) أي: رسُلا وأنبياء، بدليل قوله (وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) لأن من قتلوهم كانوا أنبياء، يعملون بكتب من كان قبلهم من الرسل، ورسل بني إسرائيل موسى وهارون ومَن بعدهم، كداود وعيسى، ومن أنبيائهم يوشع عليهم السلام، و(مَا) في (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ) مصدرية ظرفية، وبإضافتها إلى كل عمّتْ جميع الأزمان التي جاءت فيها الرسل، وبذلك عمت جميع رسلهم، أي: إن بني إسرائيل نقضوا ما أُخذ عليهم من الميثاق بالإيمان بالرسل، فما من رسول ولا نبي جاءهم إلا كانوا فيه بين أمرين: التكذيب أو القتل، فقوله (رَسُولٌ) أي: جنسه، فيشمل الواحد والكثير، ومن جَعل (كلَّمَا) شرطيةً فلشبهها بالشرط في طلبها جوابًا، لكنه شرط غير جازم كإذا، وقوله (بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ) من الهوَى، وهو ما تحبه النفس وتميل إليه من الباطل، وفعله هَوِِيَ كعلِمَ، فكلما جاءهم رسول بما لا تحبه أنفسهم، من التكاليف التي بها صلاح دينهم ودنياهم، استكبروا وناصبُوه العداء، فجواب كلما محذوف على نحو ما تقدّم، أي كانوا فيه بين الأمرين المتقدمين، دل عليه قوله (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) وجملة فريقًا كذبوا حالية، حال من الضمير في إليهم، وفريقا مفعول مقدم في الموضعين، قدم لبيان الاهتمام بحالهم العجيبة، التي تقاسموا فيها الشر بين القتل والتكذيب، والإتيان بالمضارع يقتلون وهو حكاية لحالة مضت، لاستحضار صورة هذا الفعل الشنيع، وأنه وإن مضى عليه أسلافهم، فقد استمر عليه حال خلوفهم، ورضُوا به وطبقوه، فقد حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم أكثرَ مِن مرة.
[1]) وعليه يكون (وَالَّذِينَ هَادُوا) وهم اليهود مبتدأ معطوفًا على (إن الذين آمنوا) مِن عطف الجمل (وَالنَّصَارَى) مرفوع عطف عليه (وَالصَّابِئُونَ) وهم عبدة الكواكب كذلك مرفوع، معطوفا على الذين هادوا، و(مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) اسم موصول مبتدأ ثانٍ، وقوله (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) خبر الموصول مقترن بالفاء، لشبهه بالشرط، والموصول وخبره خبر: (الذينَ هادُوا) وما عطف عليه، والرابط في جملة الموصول محذوف، تقديره: من آمن منهم، وللآية وجوه أخرى في إعرابها، منها جعل (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) خبر إن الذين آمنوا، وقطع (والصابون) عما قبله من المنصوبات، وجعله مبتدأ خبره محذوف، دل عليه خبر إن وهو (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) لأنه في نية التقديم، أي: والصابون كذلك من آمن منهم فلا خوف عليهم، ولعل الوجه الأول أقرب في بيان معنى الآية وإعرابها؛ لأن اقتران خبر الموصول بالفاء في قوله (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) شائع، بخلاف اقتران خبر إنّ، وقد تقدم نظير هذه الآية في البقرة.