المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (305)
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة – 305
[سورة المائدة: 90-91]بسم الله الرحمن الرحيم
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ)
هذا نداءٌ ثانٍ للمؤمنين؛ لتأكيد ما نهوا عنه في النداء المتقدم في النهي عن الاعتداء، بتحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله، وأضيف إليه هنا نوعان كانوا مترددين في تحريمهما، وهما (الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) وقرنَتا بالأنصاب والأزلام، المعلوم عندهم تحريمهما؛ لينتهي الحكم في الْخَمر والمَيْسِر إلى التحريمِ، كما في الأنصاب والأزلام.
وذكرت الأربع في حيّز (إنّما) الدالة على الحصر، وهو من حصر الموصوف (الْخَمْرُ) وما عطف عليه على الصفة، وهي الرجس، أي: ما الخمر وما معه إلا رجس، وهو حصر ادعائي؛ لأنه تقدم في البقرة أن في الخمر منافع للناس، فجيء بالحصر هنا ليدلّ أن تلك المنافع صارت كالعدم لا يعتد بها، بعد أن تحققت مصلحة التدرج، ليخلص الحكم في الخمر إلى التحريم والإثم، وتقدم الكلام عن الخمر والميسر في سورة البقرة، في قوله تعالى: ﴿یَسۡءَلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ﴾([1])، وكذلك الكلام على (الْأَنْصَابُ) والاستقسام بـ(الْأَزْلَامُ) هناك، وفي أول المائدة في قوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ)([2]).
وهذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) هي التي حسمَتِ البابَ في أمرِ الخمر، فقد أنهت التدرج الذي جاء في تحريم الخمر، الذي بدأ بالنهي غير الصريح في قوله: ﴿یَسۡءَلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِۖ قُلۡ فِیهِمَاۤ إِثۡمࣱ كَبِیرࣱ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَاۤ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَا﴾([3])، فانتهى عنها أناس وشربها آخرون، جاء عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: “لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى: «أَنْ لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ» فَدُعِيَ عُمَر رضي الله عنه فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا”([4]).
والميسر هو القِمارُ، والأنصاب الحجارة التي يُهِلُّون عندها لغير الله، حيث يتم الذبح عليها للآلهة، والأزلام أعواد الميسر التي يستشيرونها عند القدوم على أمر، هل يمضون فيه أم لا، وقد تقدم تفصيل كل ذلك في الآيتين المشار إليهما في البقرة وأول المائدة.
والرجس الخبث والقذر، ويطلق على ما بطن منه وهو القذارة المعنوية، التي هي الإثم، وعلى ما ظهر وهو القذارة المحسوسة، ومن فسَّره بالمعنيين – وهم الجمهور – قالوا بنجاسة الخمر، ومن فسّره بالإثم خاصة لعدم وقوع معنى النجاسة الحسية على الأنصاب والأزلام، قال بطهارة الخمر؛ لأنّ الرجس وقع خبرًا عن الأربعة، الخمر والميسر وَالأَنصَاب والأزلام.
وجاز الإخبار به عنها وهو مفرد؛ لأنه اسم جنس كالمصدر، يخبر به عن الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وقوله (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) من تسويغه وإغرائه، وأسندت إليه وجعلت من عمله تنفيرًا منها؛ لأن عمل الشيطان متقرر في أذهان الناس أنه شر، والضمير في قوله (فَاجْتَنِبُوهُ) يعود على الرجس، الموصوف بأنه من عمل الشيطان.
والأمر بالاجتناب متعلق بكل واحد من الأربعة، فيقدر في كلٍّ ما يناسبه، ففي الخمر اجتناب شربها، وفي الميسر اجتناب اللعب، وفي الأنصاب الذبح عندها وعبادتها، وفي الأزلام استشارتها والاستقسام بها، وقوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) معناه اجتنبوها لتتعرضوا للفلاح، لأجل أن يصيبكم الفلاح؛ لأن لعل للترجي والتوقع، وهذا في حق الله تعالى محال، فيحمل على معنى التعليل، أو على الترجي في حق المخاطبين.
(إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ)(91)
إرادة الشيطان للعداوة بين المؤمنين في قوله (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) هي محبّته وقوع الْبَغْضَاء والكراهية بينكم، لما في العداوة من الإضرار بكُم وسفك الدماء، فكل ما يسوء المسلم يفرح الشيطان ويحبه، وقد أمر الله المسلمين ألا يمكنوه من ذلك، فأمرهم فيما بينهم بالمحبة والأخوة، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)([5])، وقال صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ)([6]).
و(في) في قوله (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) للسببية، أي ليوقع بينكم العداوة والبغضاء بسبب الخمر والميسر، لأن الخمر يذهب بالعقول، فيتكلم الشارب بالعدوان على غيره ولا يشعر، وذلك كما جاء في سبب نزول الآية، أن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قَالَ: “أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمْكَ وَنُسْقِكَ خَمْرًا -وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ- فَأَتَيْتُهُمْ فِي حُشٍّ، وَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ، فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ، فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَحْيَ جَمَلٍ فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ بِأَنْفِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيَّ: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)”([7]).
وقد حرمت الخمر في السنة الثالثة، فتكون هذه الآية نزلت قبل نزول السورة بكاملها بمدةٍ طويلةٍ، فلما نزلت وضعت فيها.
والعداوة والبغضاء في الميسر لما يحدثه من تغيير القلوب والشحناء بسبب الخسارة والمغالبة، التي تَتنَقّل بين المقامرين، والمغالبة كالغصب، فمن يربح اليوم يخسر غدا، فلا تسلم قلوب المقامرين من التحاسد والبغضاء، وجملة (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) بيان وتأكيد للتحريم في قوله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) ولذا اقتصر فيها على الخمر والميسر؛ لأنهما المقصودان بالبيان، وقرنتا بالأنصاب والأزلام أولًا لأنهما متقرِّر لديهم تحريمهما، فلم يحتج فيهما إلى الإعادة.
والصد عن ذكر الله في قوله (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ) سماع القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما فيه نفع من الأعمال الصالحة، سواء كانت قلبية، كالتدبر في الأوامر والنواهي والعزم عَلى الأعمال النافعة والطاعات واجتناب المنكرات، أو بدنية من القيام بالواجبات، كالجهاد والسعي على العيال، فكل ما كان من ذلك مرادا به وجه الله فهو من ذكر الله، ولذا قال عمر رضي الله عنه: “أعظم من ذكر الله باللسان ذكره عند أمره ونهيه”([8]).
وصدّ الخمر والميسر عن ذكرِ اللهِ هو الانشغال بمجالسها عن الصلاة، وعن صحبةِ الصالحين، ولأنّ الخمر صاحبها يصير بها كالمجنون، والصدّ في الميسر أنّ المقامرَ كلما انتهى من جولة منّته نفسه بجولة أخرى، فيذهب سائر يومه مقيما عليه، ينتظر الربح، فيصده ذلك عن الصلاة، وعن كل عملٍ ينفعُه، ومجيء الاستفهام في قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) بعد البيان الوافي لمفاسد الخمر وأضرارها، يكون للاستعجال في تركها، والإنكار على البطء في الانتهاء عنها.
[1]) البقرة: 219.
[2]) المائدة: 3.
[3]) البقرة: 219.
[4]) مسند الإمام أحمد: 378.
[5]) البخاري: 13.
[6]) البخاري: 2442.
[7]) مسلم: 1748.
[8]) الإرشاد إلى سبيل الرشاد: 541.