المنتخب من صحيح التفسير – (الحلقة – 307)
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
(الحلقة – 307)
[سورة المائدة: 95 – 96]
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ)(95)
الصيد في قوله (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) معناه الحيوان المصيد، وعَبَّر بالقتل فقال (لَا تَقْتُلُوا) ليعم الذبح والنحر والعقر، فقتل الصيد بجميع أنواع القتل منهيٌّ عنه، والنهي للتحريم، بقرينة ما ترتب عليه من الجزاء والكفارة، ومن التوعد بالانتقام في آخر الآية، وجملة (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حالية، أي لا تقتلوا الصيد والحال أنكم داخل الحرم، أو محرمون ولو كنتم خارج الحرم، فالحُرُم جمع حرام وهو المحرم، ويطلق على المحرِم بحج أو عمرة، فيحرُم عليه الصيد، سواء كان في الحل أو الحرم، ويطلق الحُرُم كذلك على من كان داخل الحرم، ولو لم يكن محرما، فكلاهما يحرم عليه الصيد.
والضمير في قوله (مِنْكُمْ) يعود إلى المسلمين، و(متعمِّدًا) حال، أي: قاصدًا لقتل الصيد، عالما بإحرامِه، فيخرج الناسي لإحرامِه، أو أنه في الحرم، والمخطئ الذي أصابَ الصيدَ خطأ، والمضطر للأكل، فلا يكونُ واحدٌ منهم متعمدًا، وذِكر العمد ليس قيدًا في الجزاء، وإنما لأنه موردُ السبب، فغيرُ العمدِ ملحقٌ به، يجبُ فيه الجزاء، وقد جاء القرآن بالجزاء في العمد، وجاءت السنة بالجزاء في الخطأ، كما قال الزهري رحمه الله([1])، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشًا، وفي بيض النعام قيمتَه([2])، ولم يفرق بين عمدٍ وخطأ، والفرق بين المتعمد وغيره؛ أن المتعمد آثم، ويجب عليه الجزاء، وغير المتعمد يجب عليه الجزاء، ولا إثم عليه، وقوله (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)([3]) أي فالواجب جزاء مثل ما قتل مِن النعم، فمن في (مِنَ النَّعَمِ) بيانية.
والمعنى: فالجزاء الذي يجب على الصائد في صيد الحُرم يكون من بهيمة الأَنْعَام، وذلك بأن يتصدق قاتل الصيد من الأَنْعَام بِما يكون مماثلا وأقربَ ما يكون إلى الصيد الذي قتله، في هيئته وخلقته، فعند مالك والشافعي يتصدق عن النعامة بالبعير، وعن بقر وحمار الوحش ببقرة، وعن الغزال بشاة، وهو مروي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشا([4])، وفي بيض النعام قيمته([5])، وما لا مثيل له يقوَّم، ويُشترى بثمنه طعام يتصدق به على المساكين ، وعند أبي حنيفة المماثلة بين الصيد وجزائه كلها بقيمة النقود، ومخيّر بين أن يشتري به هديًا أو طعامًا([6]).
وجملة (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) صفة لجزاء، أو حال، والضمير في قوله (بِهِ) يعود على الجزاء، والضمير في قوله (مِنْكُمْ) يعود على المسلمين، احتراسا من الرجوع في كفارة الصيد إلى ما كان عليه أهل الجاهلية، لم يكن الجزاء عندهم مُقدّرا تقديرا مماثلا لما صادوه.
والمطالَب بالحُكمَين الصائد، فعليه أن يبحث عن اثنين تتوفر فيهما العدالة والفقه، والمعرفة بالتقييم، فيُقدران له الجزاء الواجب عليه، و(هديًا) حال من الضمير في قوله (يَحْكُمُ بِهِ)، و(بالغَ الكعبةِ) صفة له؛ لأن إضافته لفظية، فالحال وصِفَتها قيد في الجزاء، أي: شرطه أن تتوفر فيه الصفات الواجبة في الهدي، من السِّن والسلامة من العيوب، وأن يذبح بمكة على الصفا، أو بمنى، لا أن يتصدق به الصائد في بلده؛ لقوله (بالغَ الكعْبة).
و(أو) في قوله (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) للعطف على (فجزاء) وهي تفيد التخيير، فالجزاء بواحد من هذه الثلاثة من الواجب المخير، لكن ليس التخيير فيه من باب قولك: جالسِ الحسنَ أو ابنَ سيرين القاضي بالتساوي، بل من قولك: جالسِ السلطانَ أو الوزير؛ القاضي بالتفضيل والتفاوت، والمعنى: فالواجب جزاء مماثل للصيد من النعم، أو كفارة طعام مساكين، وذلك بأن يقدر قيمة الصيد، ويُشترى به طعام يتصدق به على المساكين في مكان الصيد، أو أقرب مكان إليه، إن عُدِموا في مكان الصيد، فيعطَى لكل مسكين مدّ.
وسمّي الإطعام كفارة والأول سمي جزاء؛ لأن الجزاء مراعى فيه المماثلة في الهيئة، أما الكفارة فهي عقوبة على الجناية بصدقة أو صيام، وإضافة كفارة إلى طعام كإضافة جزاء إلى مثل، من إضافةِ المصدر إلى فاعله، أي فيكفِّره الطعام، وعلى قراءة رفع (طعام) يكون بدلا من كفارة، وعدد المساكين يكون بعدد الأمداد.
والعَدل بالفتح في قوله (أَوْ عَدْلُ ذَلِك صِيَامًا) المساوي، وهو ما ساوَى الشيء من غير جنسه، والعِدل بالكسر المثل، وفرق الراغب بينهما؛ بأن الأول ما تدرك المماثلة فيه بالبصيرة، كالمماثلة في الأحكام، والثاني ما تدرك المماثلة فيه بالحس، كما في المكيلات والموزونات([7])، والإشارة في قوله (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ) للطعام، بأن يصام عن كل مد يوم، مهما بلغ عدد الأيام.
وقوله (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) أي: هذا الجزاء من النعم أو الكفارة الواجبة على الصائد، لأجل أن تكون هذه العقوبة رادعةً له، يشعر بعاقبتها الشديدة عليه، واللام في (لِيَذُوقَ) للتعليل، متعلق بجزاء، أي فجزاء مثل ما قتل لأجل أن يرتدع، على أنه مضاف إلى مثل، وعلى القراءة الأخرى متعلق بمحذوف، أي: فعليه ما ذُكر ليرتدع، والوبال أصله الثقل، ومنه الوابل للمطر الكثير، والطعام الوبيل: الوخيمُ الذي يعسرُ هضمُه، و(وَبَالَ أمْرِهِ) العاقبة الشديدة السوء، والضمير في (أمره) لقاتل الصيد (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) عفا الله عما صاده المحرِم قبل ورود النهي (وَمَنْ عَادَ) إلى الصيد بعد أن علم التحريم والعقوبة، فهو الذي ينتقم الله منه بعقاب الآخرة، لعناده بالعود إلى ما نهي عنه، ويتكرر الجزاء عليه في الدنيا بتكرر الصيد؛ لأنه لم يَرد ما يدلُّ على أنه يسقط بالعود، بل التشديد بالانتقام منه يدلُّ على خلافه (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) قادرٌ لا يحتاج إلى مَن يعينه، يوقعُ العقوبة على مَن يستحقّ كما يريد، وفقَ حكمته.
(أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ)(96)
لمّا ذكر الله النهي عن صيد البر للمحرم، قد يتبادر إلى الذهن سؤال، وهو: ما حكمُ صيد البحر؟ هل يشمله النهي، أم أن له حكمًا آخر؟ فجاء الجواب (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) فالآية استئناف بياني، و(أُحِلَّ) معناه دوام الحلِّ واستمرارُه كما كان، والصيد هنا المصِيد.
وفي قوله (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) إسناد الحل إلى الصيد، ومعناه قتله، بقرينة التصريح به في النهي على مقابله – وهو صيد البر – في قوله (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، والبحر يشمل الِملح والعذب، كالأنهار والبحيرات الاصطناعية والوديان ونحوها، فكله يسمى بحرًا، قال تعالى: ﴿وَمَا یَسۡتَوِی ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ سَاۤئِغࣱ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱ﴾([8]) (وَطَعَامُهُ) عطف على صيد البحر، أي: وأحل لكم أكلُ طعامِه، وهذا حكم عام للمسلمين، محرمين وغير محرمين، وطعام البحر ميتة البحر، وهي ما مات بنفسه من حيوانات البحر، وطفَا على مائه، أو ما رماه البحر، بخلاف صيده، وهو ما أُمسك ومات بسبب الصيد، قال صلى الله عليه وسلم عن البحر: (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)([9])، وقد أقام أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا على حوتِ العنبر، الذي ألقاه لهم البحر، يأكلون ويتزوَّدون، وحملوا منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكل منه([10]) (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) منصوب على الحال أو المفعول لأجله، والمتاع ما يستمتع وينتفع به من الطيبات والملذات، والخطاب في (لَكُمْ) عام لكل المسلمين، المتقدم ذكرهم في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ)، (وَلِلسَّيَّارَةِ) السائرين والمسافرين للتجارة، ينقلونه لغيرهم بالبيع والتجارة، قَديدًا أو مجمّدا، ويأكلونه، والسيارة جمع سيار وسائر، وهو من يمشي ويسير في الأرض، والتاء فيه تاء الجمع.
وقوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) تصريح بالتحريم، الذي دل عليه النهي السابق عن صيد البر في قوله: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، وحسَّن التصريحَ بالتحريم المقابلةُ بينه وبين (أُحِلَّ) في الجملة قبله، وأسند التحريم إلى الصيد الذي هو قتل الصيد دون الأكل؛ لأن المحرِمَ يجوز له أكل صيد لم يُصَد لأجله، لحديث زيد الْبَهْزِيِّ في الموطأ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، إِذَا حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقِيرٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُه، فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُهُ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ؟ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ)([11])، ودلالته ظاهرة في أنَّ للمحْرِم أنْ يأكل مما لم يَصِد، فكل ما صادَه المحرم أو صيدَ له، ولو كان الصائد غير محرم، أو أعان المحرمُ على صيده، أو دلَّ عليه غيرَ المحرم فصاده المحرم، ومات من ذلك الصيد، كل ذلك يعد ميتة، لا يجوز أكله، لحديث أبي قتادة: (أنه سقط منه سوطه، وقد ركب ليتبع حمارا وحشيا، فقال لأصحابه: ناولوني، فَقَالُوا: لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، إِنَّا مُحْرِمُونَ)([12])، وقد أُتِي عثمان بن عفان رضي الله عنه بلحم صيد وهو محرم، فقال لأصحابه: (كُلُوا، فَقَالُوا: أَوَلَا تَأْكُلُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلي)([13])، وعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه: (أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ)([14])؛ لأن الحمار كان حيّا، والمحرِم لا يتملك الصيد.
وقوله (مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) قيد للتحريم، تنبيه إلى أنه تحريم عارض مؤقَّت، لا يدوم، ولا يطول، فليس في النهي عنه إعناتٌ ولا مشقةٌ لا تطاق (وَاتَّقُوا اللَّهَ) بالتقيّد فيما أُذن لكم فيه من الصيد وغيره، وبالابتعاد عما نهيتهم عنه، فإنكم (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء على أعمالكم.
[1]) تفسير الطبري: 10/11.
[2]) أبوداود: 3801.
[3]) فاء (فجزاءٌ) إما واقعة في جواب الشرط، إن جعلت مَن في (وَمَنْ قَتَلَهُ) شرطية، أو واقعة في خبر الموصول، إن جعلت موصولة، وقرأ الجمهور (مِثْلِ) بالجر على الإضافة، من إضافة مصدر الفعل إلى فاعله، والتقدير: فيُجزيه مثلُ ما قتل جزاء على قتله، أو تجعل الإضافة بيانية، كما في ثوب خز، فجزاءٌ هو مثلُ ما قتل، ومنهم من جعلها من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي: فيجزى القاتل مثلَ ما قتل جزاء، وعلى قراءة (مِثْلُ) بالضم تكون مثل صفة، فجزاء مماثل، أو بدلا من جزاء.
[4]) مصنف ابن أبي شيبة: 16343.
[5]) السنن الكبرى للبيهقي: 10112.
[6]) أحكام القرآن للجصاص: 589.
[7]) مفردات القرآن: 551.
[8]) فاطر: 12.
[9]) أبو داود: 83.
[10]) ينظر البخاري: 4361، مسلم: 1935.
[11]) الموطأ: 784.
[12]) البخاري: 1823.
[13]) موطأ الإمام مالك: 789.
[14]) البخاري: 1825، مسلم: 1193.