المنتخب من صحيح التفسير – (الحلقة – 309)
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
(الحلقة – 309)
[سورة المائدة: 101 – 102]
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ)(101)
أشياء في قوله (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) اسم جمعٍ لشيء، كطَرْفاء اسم جمع لطَرفة شجر الأثل، ومنَع (أَشْيَاءَ) من الصرف ألف التأنيث الممدودة، والنهي عن السؤال ليس على إطلاقه، بل هناك سؤال مطلوب؛ كمعرفة حكم ما يعرض لهم في العبادة والنوازل، والسؤال المنهي عنه هو الذي إذا أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه أساءهم الجواب، وهو نوعان، ورد فيهما سبب نزول الآية.
النوع الأول: الإلحاح والإكثار على النبي صلى الله عليه وسلم في السؤال عن أحوالهم الخاصة، المتعلقة بأشخاصهم، مثل من أبي؟ وأين أبي؟ وأين ناقتي؟ لمن ضلت ناقته، وما سألقى إن سافرت؟ وذلك كان يفعله المنافقون، نُهوا عنه لما فيه من عدم توقير النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الفائدة بإشغاله عن الاهتمام بالوحي وأمور المسلمين، وفي هذا النوع من السؤال ورد حديث أَنَس رضي الله عنه فِي الصَّحِيحَيْنِ، ولفظه عند مسلم: (أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: سَلُونِي، لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ. قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، كَانَ يُلَاحَى فَيُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، عَائِذًا بِاللهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِنِّي صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَرَأَيْتُهُمَا دُونَ هَذَا الْحَائِطِ)([1]).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (كَانَ قَوْمٌ – أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ – يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الْمُسَافِرُ: مَاذَا أَلْقَى فِي سَفَرِي؟ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّهَا)([2]).
والنوع الثاني من السؤال المنهي عنه: سؤال التعمقِ الذي يصعِّب التكاليف، بالبحث عن أحكامٍ لم يكلفوا بها، نهوا عنها خشية أن يجابوا بما يشق عليهم، فلا يستطيعوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)([3])، “وَقَدْ شَدَّدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ وَصْفِ الْبَقَرَةِ، مَعَ وُقُوعِ الْغُنْيَةِ عَنْهُ بِالْبَيَانِ الْمُتَقَدِّمِ، فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ”([4]).
ومن هذا ما جاء في صحيح مسلم، في سبب نزول الآية، عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ)([5]) وعند التِّرْمِذِيّ: (فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)([6]).
والسائل عن الحج هو الأقرع بن حابس رضي الله عنه، كما ورد في الحديث من طريق آخر، ولا مانع من أن يتعدد سبب النزول للآية الواحدة.
وقوله (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي إن تظهر لكم ويخبركم الرسول صلى الله عليه وسلم بجوابها يسؤكم جوابها، وتغتموا منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (أَبُوكَ فِي النَّارِ)([7])، أو تجدون جوابها شاقًّا، يشق عليكم التكليف به، لا تقدرون عليه ولا تطيقونه، وكنتم منه قبل في عفو؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)([8])، فجملة (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) صفة للأشياء التي نُهُوا عن السؤال عنها، أي هذه إحدى صفاتها، ومثالها ما تقدم.
والظرف في قوله (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) يصح أن يتعلق بقوله (وَإِنْ تَسْأَلُوا) أي: إذا سألتم وقت نزول الوحي جاءكم الجواب وقت السؤال دون تأخير، ويصح أن يتعلق الظرف بقوله (تُبْدَ لَكُمْ)، على معنى أنكم إذا سألتم عنها في أي وقت من الأوقات يأتيكم جوابها حين نزول الوحي، فانتظروه، ولا تُعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكثيرا ما كان يُسأل ولا يجيب، ثم إذا نزل عليه جبريل عليه السلام وسُرّي عنه يقول: أين السائل عن كذا؟ فيجيبه، كما وقع في حديث السائل عن العمرة، فلم يجبه، وبعد أن أعلمه الوحي بالجواب قال له: (انْزِعْ قَمِيصَكَ وَاغْسِلْ هَذِهِ الصُّفْرَةَ عَنْكَ، وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَفْعَلُ فِى حَجِّكَ)([9])، وقد قال الله تعالى فيما أخبر به عن نبيه: ﴿إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّ﴾([10]).
والعفو في قوله (عَفَا اللهُ عَنْهَا) يحتمل ارتباطُه بما تقدم من سؤال النوازل المأذون فيه، الواقع حين نزول الوحي، لمعرفة ما يحتاجونه من الأحكام، فهذا الذي أخبر الله أنه عفا عنه، ويحتمل أن يكون المعنى عفا الله عما وقع في الماضي من السؤال على أحد الوجهين المنهي عنهما، المذكورين آنفا، فما سلف منه عفا الله عنه، فلا تعودوا إليه (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) يعفو ويتجاوز، ومنه يُعلم أن النهي في قوله (لَا تَسْأَلُوا) ليس واردا عن أصل السؤال، وإنما عن نوع خاص منه، يقع به الضرر عليهم.
(قَدۡ سَأَلَهَا قَوۡمٞ مِّن قَبۡلِكُمۡ ثُمَّ أَصۡبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ)(102)
قوله (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أمم أخرى من قبلكم، وقعت في المحظور من مثل ما سألتم عنه، والضمير في سألها للمسألة، التي دل عليها فعل (لَا تَسْأَلُوا) فيكون مفعولا مطلقا؛ لأنه بمعنى المسألة، أو يعود على أشياء، وهو على التقديرين على حذف مضاف؛ لأن السؤال ليس هو عين ما وقع ممن قبلنا، وإنما عن مثله.
والباء في قوله (بِهَا) يصلح أن تكون للسببية، أي: أصبحوا بسببها كافرين، أو متعلقة بكافرين، أي: لما أجيبوا صاروا كافرين لامتناعهم ورفضهم بما أجيبوا، والمعنى: قد سأل مثل هذه الأسئلة المتعنّتة أمم من قبلنا، فلما جاءهم الجواب كفروا به، أو صاروا بسببه كافرين، وذلك كما وقع لثمود قوم صالح عليه السلام، سألوه أَن يأتيهم بمعجزة، فلما أخرج الله لهم الناقة من الصخرة عقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، وكفروا، والتعبير بـ(أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) يدل على سرعة مبادرتهم إلى الكفر، فإنَّ الصباح أول ظهور النهار.
[1]) البخاري: 6362، مسلم: 2359.
[2]) البخاري: 4622.
[3]) سنن الدارقطني: 4396.
[4]) شرح السنة للبغوي: 1/311.
[5]) مسلم: 1337.
[6]) الترمذي: 814.
[7]) أبوداود: 4718.
[8]) مسلم: 1337.
[9]) موطأ الإمام مالك: 727.
[10]) الأنعام: 50.