بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5256)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
أنا ع م، طلَّقتُ زوجتي سنة 2017م، بقولي لها: “أنتِ طالق”، ولم يكن لي قصدٌ إلا تخويفها فقط، واستفتيتُ شيخًا، فأفتاني بعدم وقوع الطلاق، ثم طلَّقتُ مرة أخرى سنة 2018م، باللفظ السابق نفسه، وكنتُ في حال غضبٍ شديدٍ، فاستفتيتُ مرةً أخرى، فأُجِبْتُ بعدم وقوع الطلاق، ثم في شهر يناير من سنة 2023م طلقتُ مرة أخرى باللفظ نفسه، فهل لي أن أرجعها إلى عصمتي؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالطلاق يقعُ وتنحلُّ به العصمة إن كانَ بلفظٍ صريحٍ، سواء نوَى به الزوجُ التخويفَ أو غيرَه، كان جادًّا أو هازلًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثُلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ) [الترمذي: 1184، وقال: حسن غريب]، قال الدردير رحمه الله: “(وَلَفْظُهُ الصَّرِيحُ) الَّذِي تَنْحَلُّ بِهِ الْعِصْمَةُ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ حَلَّهَا مَتَى قَصَدَ اللَّفْظَ (الطَّلَاقُ)، كَمَا لَوْ قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي، أَوْ: عَلَيَّ الطَّلَاقُ، أَوْ: أَنْتِ الطَّلَاقُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ” [الشرح الصغير: 2/559].
عليه؛ فقول الزوج “أنتِ طالق” سنة 2017م وقعت به طلقة، ولا عبرةَ بنيَّة التخويف؛ لتلفظه بصريح الطلاقِ، ولا عبرة بما أُفتِيَ به.
والعقلُ هو مناطُ التكليفِ والمؤاخذةِ بالأقوالِ والأفعال، فإذا كان المطلِّقُ يعِي ما يقول، ويقصدُ ما يتكلمُ به؛ فالطلاق واقعٌ، ولو اشتدَّ غضبه، قال الصاوي رحمه الله: “يَلْزَمُ طَلَاقُ الْغَضْبَانِ، وَلَوِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ … وَكُلُّ هَذَا مَا لَمْ يَغِبْ عَقْلُهُ، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَالْمَجْنُونِ” [حاشية الصاوي: 1/449].
عليه؛ فما تلفَّظ به الزوج سنة 2018م من قوله لزوجته: “أنتِ طالق”، وهو غاضبٌ غضبًا شديدًا، وقعت به طلقة ثانية؛ لأنه كان واعيًا لما قال، قاصدًا لما تكلم به.
واسترسال الزوج على الزوجة دون ترجيع لها حرام عليه، يجب أن يتوب منه، وبخروجها من العدّة دون أن يرجعها تكون قد بانت منه، ومعاشرته لها حرام لعل الله يعذره بجهله، وعليه أن يصدق التوبة والندم، ويتعلم ما ينفعه حتى لا يقع في مثله، وما أوقعه بعد الطلاق الأول هو لازم له؛ مراعاة لقول ابن وهب رحمه الله الذي يصحح الرجعة بالوطء ولو لم يصحبها نية إرجاع ولا قول؛ ويكون طلاقا بائنا بينونة صغرى؛ لأنه كالطلاق في نكاح مختلف فيه، قال البناني رحمه الله : “وَيَتَعَيَّنُ كَوْنُ الطَّلَاقِ اللَّاحِقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَائِنًا؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِلُحُوقِهِ هُوَ أَبُو عِمْرَانَ، وَقَدْ عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ كَالطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهَذَا بَائِنٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا لَلَزِمَ إقْرَارُهُ عَلَى الرَّجْعَةِ الْأُولَى، وَالْمَشْهُورُ بُطْلَانُهَا” [منح الجليل: 4/182].
وإذا تمادى الزوج على وطء زوجته التي بانت منه بينونة صغرى بالطلاق الثاني، فلا يعقد عليها إلا بعد أن يستبرئها بثلاث حيضات.
وأما الولد الذي حصل من هذا الوطء الفاسد، فيُلحقُ بالزوج؛ لأن الوطء كان بشبهة، قال التسولي رحمه الله: “وَالْمَعْنَى أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ كَنِكَاحِ ذَاتِ مَحْرَمٍ أَوْ خَامِسَةٍ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ كَالْمُحْرِمِ، وَالشِّغَارِ إِنْ دُرِئَ فِيهِ الْحَدُّ عَنِ الزَّوْجِ بَعْدَ عِلْمِهِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَمُطْلَقًا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ يدْرَأُ الْحَدَّ، فَإِنَّهُ يُلْحَقُ فِيهِ الْوَلَدُ” [البهجة: 1/430].
وتلفظ الزوج بالطلاق أول هذه السنة لا تقع به طلقة؛ لأنه لم يصادف محلّا، فالزوج لم يرجع زوجته إلى عصمته بعقد جديدٍ، بعد أن بانتْ منه بينونةً صغرى في الطلقة الثانية.
عليه؛ فالزوج قد لزمته طلقتان، وبانت منه زوجته بينونة صغرى، وعليه إن أراد إرجاع زوجته أن يستبرئها – أي أن يكفّ عن معاشرتها – إلى أن تحيض ثلاث حيضات، أو مدة ثلاثة أشهر إن بلغت سنَّ اليأس، ثم عليه أن يجدّد العقد عليها بصداقٍ ووليٍّ وشاهدين إذا أراد ترجيعها، وعليه أن ينتبه لنفسه بأن يتجنب الطلاق؛ لأنه إذا طلّق مرة أخرى فإنّ المرأة تحرم عليه، ولا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة؛ لقول الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229]، ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنم بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الرحمن بن حسين قدوع
عصام بن علي الخمري
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
14//محرم//1445هـ
01//08//2023م