بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (2636)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
قام مصنع شركة الاتحاد العربي بزليتن بفتح باب الحجز في الإسمنت، ولكلّ مواطنٍ الحق في حجزِ سيارتين بالجرار في السنة الواحدة، بشرطِ إحضار البطاقة الشخصيةِ والرقم الوطني، وصكٍّ مصدق بالقيمة، وللعاملين بالمصنع الحقّ في حجز أربع سيارات بالجرار في السنة، ويسمح كذلك للجهات الخيرية بالحجز؛ خدمةً للمحتاجين، فما حكم قيام الجمعيات الخيرية باستثمار أموالها في تجارة الإسمنت، وذلك لمصلحة الفقراء والمحتاجين، وتطوير نشاطِ الجمعية؟ وما حكمُ الحجزِ لغرض بيعِ الإسمنت، وليس لاستعماله في البناء؟ وما حكم بيع واصلات الإسمنت؟ وما حكم بيع المواطن بطاقته الشخصية للتجار، لِيحجزوا باسمِه؟ وما حكم شراء البطاقات والواصلات للتجارة؟ وما حكم الزكاة على قيمة الواصلات بعد مرور الحول؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن هذه السلعة – كغيرها من عديد السلع الأخرى منذ أمدٍ بعيدٍ – تُعقد بصورةٍ تكتنفها الجهالة والغرر، وشرط عقد البيع السلامةُ من ذلك، فلا تتحققُ السلامة من الجهالة المفسدة لعقدِ البيع، إلا بالعلم بالثمنِ والسلعة والأجلِ، وهذا محلّ اتفاقٍ بين أهلِ العلم، عندَ علماءِ المالكية وغيرهم، فقد قدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فوجدهم يسلفون في الثمارِ السنةَ والسنتين، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَن أسْلف فليُسلِف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ) [أخرجه أصحاب الكتب الستة]، وبيعُ الإسمنتِ أجلُ الاستلامِ فيه مجهولٌ، ويختلفُ اختلافًا كبيرًا، يُفضي إلى الغرر، وليسَ يسيرًا مغتَفَرًا.
وكانتْ مصانعُ الإسمنت في وقتٍ من الأوقاتِ، لا تحددُ الثمنَ أيضًا، وإنَّما تجعلُه قابلًا للتغييرِ، وهذه علةٌ أخرى، تقتضِى فسادَ العقدِ.
فالواجبُ على إدارةِ المبيعات، في مصنع الإسمنتِ، وفي غيرهِ مِن إداراتِ المؤسساتِ والشركاتِ العامةِ، أنْ تحددَ في كلّ سلعةٍ تبيعها؛ كميةَ السلعةِ ونوعَها وثمنَها، وأجلَ التسليمِ؛ ليُصحّحوا عقودَهم، ويضمنُوا حقوقَ زبائِنهم، ويحلِّلُوا أموالَهم، فإنّ الجهالةَ تفسدُ العقودَ، وتجعلُ المالَ خبيثًا.
أمّا حكمُ التنازلِ عن حصة الإسمنتِ أو غيره، عن طريقِ بيعِ البطاقةِ الشخصيةِ والجواز، فهوَ مما يدخلُ في بيعِ الشيءِ قبل تملُّكه، وتوضيحُه كالآتي:
المستنداتُ الخاصةُ؛ كبطاقةِ إثباتِ الشخصيةِ، أو جوازِ السفر، تؤهلُ صاحبَها لحقّ التملكِ بالشراء، أو الانتفاعِ بشيءٍ ما، مثل شراءِ الإسمنتِ، أو الحصولِ على بطاقةِ سحبٍ بالعملةِ الأجنبيةِ، أو صرفِ وتحويلِ عملةٍ للخارجِ، أو فتحِ اعتمادٍ مستنديٍّ، ونحو ذلك.
فهذه المستنداتُ إذًا هي مجردُ سببٍ للتملكِ، ولا يعد صاحبها مالكًا بالفعل، إلا بعد أن يملك، ومن القواعد الفقهية: (مَن وُجدَ سببُ المِلكِ في حقّه لا يُعد مالكًا إلا إذا ملكَ بالفعلِ)؛ لذا فرَّعوا على هذه القاعدة؛ أن الزكاة تعطى للفقير القادرِ على الكسبِ، والفقيرِ الذي له مَن يُنفق عليه، إذا لم ينفقْ بالفعلِ، ولم يعدُّوه بوجودِ السببِ غنيًّا مالكًا للمال.
والقاعدة المذكورة، وإن كان في بعض فروعها خلاف؛ فلا يجري على ما ورد في السؤالِ، بأنْ يُجعلَ مَن أَهَّلتْه البطاقةُ لشراءِ الإسمنت، كأنّه اشتراهُ وملكَه بالفعلِ، بحيث يجوزُ له بيعُه أو التنازل عنه بعوض، ولا يصح ذلك لأمرين:
الأول: لأنّ بيعَه على مجردِ افتراضِ أنه ملكَه وهو لم يملكه؛ هو مِن بيعِ الشيءِ قبلَ تملّكه، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحكيمِ بن حزام: (لا تبعْ ما ليسَ عندكَ) [أخرجه أصحاب السنن الأربعة]، والنهي عن بيع الشيء قبل تملكه محلّ اتفاق؛ لأنه غرر.
الثاني: أن صورة بيع الإسمنت لا تدخل تحت لفظ القاعدة السابقة، فلا يجري فيها الخلافُ، بل تدخلُ في لفظٍ آخرَ لها، وهو: (مَن ملكَ أنْ يملكَ هل يُعدّ مالكًا؟)، ومثلوا للتفريع عنها بمَن كان قادرًا على الزواجِ ولم يتزوج، فإنه بناءً على هذا اللفظِ للقاعدةِ يلزمُه المهرُ، وتلزمه النفقةُ، ولا قائلَ بهذا، ولذا قال القرافي في الفروقِ، منكرًا هذا اللفظ الأخير للقاعدة: “ولا يمكن أن يجعل هذا من قواعد الشريعة البتة” [421/4].
ولا يُعد بيع البطاقة والجوازِ مِن بابِ التنازل عن شراءِ السلعةِ بعوض، تخريجًا له على ما قالوه فيمن لهُ رغبةٌ في سلعةِ، فإن له أن يسألَ غيرَه ترْكَ مساومتِها بعوض، وذلك لأنّ مَن ترك المساومة تَركَ حقّه في الشراءِ بالفعلِ، وتنازل عنه لغيرِه، أمّا مَن يبيعُ البطاقةَ؛ فهو لم يترك الشراء، بل تُشترى السلعةُ باسمهِ؛ لأنّ العقدَ يصدرُ باسمِه، وقبلَ صدور العقد له، يبيعُ أو يتنازلُ بعوضٍ لغيره عن سلعةٍ ستنعقدُ له باسمه، فهو قدْ باعَ قبلَ أن يملكَ.
والقولُ في بيعِ المنافعِ بالبطاقة أو جواز السفرِ، كالقولِ في بيع الأعيان والرقابِ، لا يجوزُ بيعُها قبل تملكها؛ لأنّ المنفعةَ في حالِ بيع البطاقةِ، تصدرُ باسمِ صاحبِ البطاقة، ولا تصدرُ باسمِ الذي اشتراها، فهي ليست تنازُلًا عن حقوقٍ بِعوضٍ، وإنما هي بيعٌ قبلَ التملكِ، بدليلِ لو أن صاحبَ البطاقةِ قال للمصنعِ أو للمصرفِ: أريدُ أن أتنازلَ عن حقّي في هذا الإسمنتِ، أو ذلكَ التحويلِ لفلان؛ فدونوا له العقد باسمه، فإنه لا يقبلُ منه، ولا يُعطى هذا الحق.
أما بيعُ الواصل بعد الشراء؛ فإنه إذا كان صاحب البطاقة اشترى لنفسه، وبعد الشراء أرادَ أن يبيع الواصل، فبيع الواصل هو مِن بيعِ السلعة قبل قبضِها، وقد منَعه الجمهور، وجوّزه المالكيةُ في غير الطعامِ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعِ الطعامِ قبلَ قبضِه، وحمل المالكية باقي أحاديثِ النهي، الدالةِ على بيعِ السلعةِ قبل قبضِها مطلقا، على الطعامِ خاصةً؛ لأنّ مورد الحديثِ واحدٌ، لكن المالكية أيضًا يمنعونَ بيعَ السلع غير الطعام قبل قبضِها مِن أهلِ العِينة، الذين ينصبون أنفسهم لاستبدالَ النقدِ بالنقدِ، ويوسطون لذلك سلعة لا يرغبونَها، بل ليتوصلوا بها إلى العِينة، إذا كثرَ القصدُ لذلك؛ كما هو الحال في هذه التجارة، يشترونَ لغرضِ بيعِ الواصلات، يشتري الواحدُ من التجار ما يمكنُه مِن واصلاتٍ بعشرينَ مثلًا، ويبيعها بخمسةٍ وعشرين، وهكذا دواليك، يستبدلُ نقدًا بنقدٍ، ولا غرضَ له في السلعةِ، فالبيعُ على هذا النحوِ من أهل العينة لا يجوزُ؛ لا عند المالكيةِ، ولا عندَ غيرهم، وإن اختلفتِ العلة.
ومَن اشترى الإسمنت يريده، من غير أهل العينة، شراءً صحيحًا، تَحدد فيه الثمنُ والأجلُ والسلعةُ، وأرادَ بيعَ الواصل، فله ذلكَ؛ للسلامةِ مِن الغررِ، ومنعُ هذا عند المالكية خاصٌّ بالطعامِ، كما تقدم.
أمّا صرفُ الإسمنت للجمعيات الخيرية، أو للعاملين في المصنع؛ فإنه ما دامت هذه السلعة شحيحةً، فينبغي أن يُراعى في توزيعِها العدلُ، وأن يقتصر بيعُها على مَن يشترونها للبناء، وتعطى الأولويةُ لمن هم مِن ذوي الدخلِ المحدود؛ لمساعدتِهم على المسكنِ الضروري.
أما فتح الباب للتجارة بهذه السلعة، وصرفها للجمعياتِ الخيرية؛ فلا ينبغي، فإنّ فتحَ هذا البابِ يزيدُ مِن نقصِ السلعةِ وارتفاعِ أسعارِها على العامة، إلا إذا كانت الجمعياتُ تأخذ الإسمنتَ لتبنيَ به بيوتًا للمحتاجين، لا لتتاجر فيه.
والعدلُ الذي أمر الله تعالى به، يقضي بأن يكونَ قانون صرفِ الإسمنتِ واحدًا، على جميعِ الناس، يعانُ به مَن أرادَ البناء، لا مَن يُتاجر به، لا فرقَ بين العاملين بالمصنعِ، أو غيرهم.
أما زكاةُ الواصلات؛ فإن كانت الواصلات للتجارةِ، فعلى التاجر أن يزكيَها مع أموالِه عند مرور الحولِ، وإن كانت لمن يريدُ البناءَ بالإسمنت فلا زكاةَ عليه؛ لأنه لا زكاةَ في العروضِ إذا لم تكن للتجارة، ففي الحديث: (ليسَ على المسلمِ في فرسِه، ولا في عبدِه صدقةٌ) [أخرجه مالك وأصحاب الكتب الستة]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد محمد الكوحة
أحمد ميلاد قدور
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
13/المحرم/1437هـ
2015/10/26م