بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5282)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
جاء في وثيقة ما نصه: (أوصى السيد م س ق بكامل الثلث في مخلفه من العقار ما عدا دار السكنى الكائن مكانه بالجفارة الشرقية ببلد قماطة بتراب الدراوزة ومزارعهم أينما كان وتبين من أرض وأشجار وكل ما يطلق عليه اسم العقار يجمع ما يتحصل من غلة ذلك ويطعم به الفقراء والمساكين والعاجزين والصغار القاصرين سواء بسواء بدون تقديم أحد على آخر قاصدا به وجه الله الجليل وثوابه الجزيل صدقة جارية دواما سرمدا وصية صحيحة كوصايا المسلمين تنفذ بعد موته وجعل الوكيل على ذلك والمنفذ له ابن أخيه (أ) المسمى (م ش) وجعل الرقيب على ذلك: (ع س)، وحضر كلّ من الوكيل والرّقيب المذكورين وقبلا منه قبولا تامّا وألزما أنفسهما القيام بذلك، شهد على الجميع بما ذكر كيف ذكر من أشهداه وسمع منهم وعرّفهم والكلّ بحال كمال بتاريخ آخر شهر ذي القعدة الحرام الموافق لسنة 1387هـ عَبْدُهُ تَعَالَى ح ص وفَّقهم اللهُ آمِين) ثمّ ذكر الشّهود، وفي وثيقة المقاسمة بين الورثة: (فكان ما صحَّ من ذلك العقارِ للثُّلثِ سبعة زَيْتُونَاتٍ بِالجِنَان التي شمال الطريق الساحلي… مع جنان المعروف بجنان س وبه تسع زيتونات…)، فهاتان القطعتان لا تتجاوز مساحتهما معاً 1800م2، وإنتاجهما من الزيتون قليل جدًّا؛ نظرًا لقلة الأمطار، وضعفِ الاعتناء بهما؛ لارتفاع كلفة الزراعة، والآن توفى الوكيل (م ش)، واستلمت أنا الرقيب (ع س) تنفيذ هذه الوصية، ونظرًا إلى انخفاضِ عائد هذه الأراضي وانعدامه في كثير من الأحيان؛ هل يجوز لي بيع هذه الأراضي، ووضع قيمتها في أشياء أفضل؛ كحفر آبار المياه للمحتاجين، مما لا يحتاج إلى مال وجهد، ويبقى نفعه؟
الجوابُ:
الحمدُ لله، والصّلاةُ والسّلامُ على رسولِ الله، وعلى آلهِ وصحبهِ ومن والاهُ.
أمّا بعدُ:
فالوصية المذكورة هي وقف على صاحبها، يصل ثوابه له، والأصل أن أرضَ الوقف لا تُباع، ولا يُتصرف فيها بمبادلةٍ ولا غيرِهَا؛ لأنَّ في ذلكَ تبديلاَ لِغَرضِ الواقف، قال الله تعالى: (فَمَنۢ بَدَّلَهُ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثۡمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ) [البقرة:181]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في صدقته: (إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا)، وقول عمر رضي الله عنه بعد ذلك: “لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ”[النسائي: 6393]، وهذا إذا كان الوقف الموصَى به له غلةٌ وإنتاج، أما إذا انقطعت منفعته وصارَ خرابًا، فبإمكان الناظرِ على الوقف في هذه الحالة، أن يعطي الوقفَ لمن يعمّره ويستثمرُه، بما يحققُ مصلحة الوقف، قال عليش رحمه الله: “وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ بِجَوَازِ إجَارَةِ الْوَقْفِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لِمَنْ يُعَمِّرُهُ وَيَخْتَصُّ بِزَائِدِ غَلَّتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يُعَمَّرُ بِهِ وَوَقَعَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي وَقْتِهَا وَجَرَى الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُمْ إلَى الْآنَ فِي مِصْرَ” [فتاوى عليش: 239/2]، ويكون ذلك بأن يعطيه لمستثمرٍ، ويتفق معه على أن يبني المستثمر فيه عمارة، ويكون بإحدى طريقتين:
إما أن تكون جميع غلة البناء وكرائه للباني المستثمر، إلى نهاية المدة المتفق عليها، ثم تؤول الأرض بما عليها من العمارة إلى الوقف.
وإما أن يبقى البناء للباني ملكًا له دون الأرض، والأرض تبقى ملكًا للوقف، وتقسّم الغلة والإيجار بين المستثمر صاحب البناء، وبين الواقف صاحب الأرض، بنسبة رأس المال لكل منهما، فإذا كانت قيمة أرض الوقف خمسين مثلًا، وقيمة الاستثمار في البناء خمسين، كان للمستثمر نصف الكراء وللوقف نصفه، وهكذا، وإذا استأجر المستثمر البناء، وسكنه بنفسه، قُدرتِ الإجارة بأجرة المثل، ويعطي منها للوقف ما ينوبه على النحو السابق، هذا إذا كان العقار قابلا للاستثمار والبناء عليه أو للإيجار، وإلا فيمكن للناظر استبداله بمكان في موضع آخر يصلح للاستثمار أو الإيجار.
وبهذا العمل يستمر الوقف، ويصرف فيما أرادَ الواقف، وهو أولى من إِبْطَالِهِ وَبَقَائِهِ خَرَابًا، والله أعلم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
حسن بن سالم الشريف
عبد الرحمن بن حسين قدوع
الصّادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
11//صفر//1445هـ
27//08//2023م