بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5449)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
وقَعَ زوجي في انحرافاتٍ أخلاقية بعلاقات محرمة مع النساء، بالاتصال واللقاء بهن عدةَ مرات، ونتج عن ذلك خلافاتٌ كثيرةٌ بيننا خلال أربع سنوات، طلقني فيها أربع طلقات، وقد حاول أناسٌ أفاضلُ الإصلاح بيننا في تلك الفترة، وفي كل مرة يرجع الزوج إلى ما كان عليه، وقد وقعت الطلقة الأولى بحنثه في الحلف بالطلاق كاذبًا، وهو يعلم أنه كاذب، ثم أرجعني بشهود، ثم اكتشفتُ علاقته مع إحدى العاهرات مجددًا، وطلبت منه الطلاق فرفض، فقمت بتهديده بأنه إن لم يطلقني فسألجأ للقانون برفع قضية خلع، فقام بتطليقي -وهي طلقة في طهر جامعني فيه- ثم قام بإرجاعي، وبعد عام رجع للعلاقات المحرمة، وطلقني مرة أخرى بطلب مني، وبفتوى من شيخ يعرفه زوجي قام بمراجعتي، بناء على أن الطلاق الثاني غير واقع؛ لأنه بِدعي، ثم بعد مدة لم يتغير حال زوجي، ولا زال في علاقاته المحرمة، فطلبت منه الطلاق، وقد طلقني بعد جدال طويل وتهديد مني بفضحه، وشهد على هذا أصدقاؤه الذين حاولوا الصلح بيننا مرارًا وتكرارًا، والآن يدعي الزوج أن الطلاق غير واقع؛ لأنه كان مهددًا بالفضيحة، وهذا إكراه بحسب دعواه، ويريد إجباري على الرجوع، فما حكم الطلاق؟ علمًا أني قد عانيت نفسيًّا في الفترة الأخيرة، وبدأت أخاف على نفسي الأمراض، ولا أرغب في العودة إليه والعيش معه، وأريد التسريح من دون اللجوء للقضاء؛ رغبة مني في الستر على زوجي وأبنائي وبناتي، فما نصيحتكم لي وللزوج؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الإكراه الذي لا يعتدُّ معه بالطلاق، يكون بخوفِ حصول شيء مؤلم للزوجِ إن لم يطلقْ، كالتهديد بالضربِ أو الحبس، أو القتل له أو لولده أو أحد والديه، أو بأخذ ماله أو حرقه وإتلافه، قال الدردير رحمه الله: “(أَوْ) (أُكْرِهَ) عَلَى إيقَاعِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي فَتْوَى وَلَا قَضَاءٍ… وَالْإِكْرَاهُ الَّذِي لَا حِنْثَ مَعَهُ يَكُونُ (بِخَوْفِ مُؤْلِمٍ) وَيَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ وَلَا يُشْتَرَطُ تَيَقُّنُهُ، وَبَيَّنَ الْمُؤْلِمَ بِقَوْلِهِ (مِنْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ) وَإِنْ قَلَّ” [الشرح الكبير: 2/ 367].
وما ذكره الزوج من التهديد الذي حصل له، لا يعد من الإكراه المانع لوقوع الطلاق، بل كان ينبغي للزوج أن يستغل هذا الإكراه بالتبديل من حاله، وأن يخافَ الله تعالى في نفسه بإصلاحها، ولا يسعى في هلاكه في الدنيا والآخرة، بالانغماس في وحل المعاصي متماديًا في غيه، مصرًّا على المعصية، فقد امتدح الله عباده المتقين بصفاتٍ منها: عدمُ الإصرار على الذنب، فقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (… وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ، الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ” [أحمد: 7041].
وعليه؛ فالطلاق المذكور واقع كله، وقد استنفد الزوج كل الطلقات المشروعة، وبانتْ منه زوجته بينونةً كبرى، فلا تحلُّ له حتى تنكحَ زوجًا غيره نكاح رغبة ثم يطلقها، أو يموت عنها؛ لقول الله b: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥ﴾ [البقرة: 228]، قال ابن عبد البر رحمه الله: “وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ، فَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ” [الاستذكار: 158/18].
وما نسب للزوج في السؤال من العلاقات المحرمة بالنساء هو مِن كبائر الذنوب، فيجب عليه أن يتوبَ منه، لينصلحَ حاله في المستقبل مع أولاده وامرأته إن تزوج، فإنه لا ينصلحُ حالُه معهم إلا إذا أصلح ما بينه وبين ربه.
ونصيحةٌ للزوج – بعد التوبة والإنابة – أن يسترَ نفسه، بتضييقِ دائرةِ مَن يعرفون فعلته، وألَّا يسهم في توسيعها، ففي الحديث: (… أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ…) [الموطأ: 12]، قال ابن عبد البر رحمه الله: “وَفِيهِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ السِّترَ واجبٌ على المسلم فِي خاصَّةِ نَفْسِهِ…” [التمهيد: 3/732].
ويحرم على الزوج أن يجبر الزوجة على الرجوع إليه؛ لأنها تعد أجنبية منه، ولا علاقة له بها؛ لانتهاء العصمة بينها وبينه باستنفاد الطلقات الثلاث.
ولا يجوز للمرأة من جهتها بعد هذه الطلقات الرجوع إليه، وعليها أن تبذل وسعها في تركه، ولو لم يكن ثمّتَ سبيلٌ إلا القضاء فعلَتْ، ولو أدى ذلك إلى افتضاحه؛ لأن مفسدة البقاء في عصمته أعظمُ من مفسدةِ هتكِ سترهِ الذي اختاره لنفسِه، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد العالي بن امحمد الجمل
حسن بن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
26//جمادى الآخرة//1445هـ
08//01//2024م