المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (323)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (323)
[سورة الأنعام:40–45]
(قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُأَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ)(40)
افتتاح الآية بقل في (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، يدل على اهتمام زائد بما سيقوله النبي لهم، وإلَّا فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم مأمورٌ بتبليغ القرآن كله، ووجهُ الاهتمام أنَّ الخطاب هنا بصددِ إقامة حجةٍ على المكذبين من نوع آخر، وهو تذكيرهم بحالة تعرضُ لهم حين يمسُّهم الضر، ويجدون أنفسهم ملجَئين إلى الإقرار بتوحيدِ الله، ومقرِّين بقدرته وحده على رفع الضر.
أي قل لهم: أرأيتَكم إن نزل بكم عذابُ الله وعاينتموه، ونزلتْ بكم مصائبه، التي لا تقدرون على دفعها (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) فماذا أنتم فاعلون؟ فيا مَن تشركون بالله ولا تخافونه، أخبروني وأجيبوني: إنْ نزل بكم عذاب الله من تدْعُونَ؟ (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) وهو استفهام إنكاري.
وافتتحت الآية بجملة (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ) وهو استفهام للتعجيب من حالهم، وهذا التركيب في الخطاب يلازمُ حالةً واحدة،وهي الواردةُ في الآية، فتح تاء الخطاب مع كل تصرفات الفعل، المذكر والمؤنث والجمع والمثنى؛ تخفيفًا للنطق بها، فلا يقال: أرأيتِك للمؤنث وأرأيتُكما للمثنى وأرأيتُكم للجمع، وهذا الاستعمال الواحد للفعل عندإرادة الاستفهام الموجه للمخاطَب، صارت ملازمته لصورة واحدة أشبه بالمثل، وتعرب فيه التاء المفتوحة فاعلا، وكاف الخطاب وميم الجمع بعدها يجعلونها مجرد علامة خطاب، لا محل لها من الإعراب؛ لأنَّ كافَالخطاب وتاء الخطاب قبلها هما شيءٌ واحد، متحدتانِ في المعنى، وتكون الجملة بعده (أَغَيْرَ اللهِ) سدتْ مسدَّ المفعولين، وهناك من يجعل الكافَ المفعولَ الأول، والجملة بعده المفعولَ الثاني.
والخطاب في (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) للمشركين كالخطاب قبله، والجملة شرطية، وأتاكم: جاءكم وحلّ بكم، و(عَذَابُ اللهِ)بأسه، وأعيدَ العامل (أتتْكُم) مع الساعة مع إمكانية الاكتفاء بالعطف؛ للتهويل والتخويفِ من إتيانِ القيامة ومباغتتِها، وجوابُ الشرط في قوله (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ) محذوفٌ تقديره: أخبروني مَن تدعون؟
وتقديم المفعول (أَغَيْرَ اللَّهِ) على الفعل (تَدْعُونَ) للاختصاص، الدال على شدة الإنكار عليهم فيما تعلقوا به مِن دعوة غيرِ الله، مع عدم نفعه، وجملة (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) شرطيّة مستأنفة، جوابُها محذوف، تقديرُه: إن كُنتُم صادقين فادعوهم ليُجيبوكم، وهذا زيادة في تبكيتهم؛ لأنّهم يعلمون عدم جدواها إذا مسّهم الضرّ، لذا هم لا يذكرونها ولا يدّعونها.
(بَلۡ إِيَّاهُ تَدۡعُونَ فَيَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَيۡهِ إِن شَآءَوَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ)(41)
قوله (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) أي أن المشركين عند الكرب يخصّون الله بالدّعاء دون سواه (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِیَهُم مَّوۡجࣱكَٱلظُّلَلِ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُممُّقۡتَصِدࣱ وَمَا یَجۡحَدُ بِءَایَٰتِنَاۤ إِلَّا كُلُّ خَتَّارࣲ كَفُورࣲ﴾()، وإذا فعلوا ودعوا فيكشفُ ما يدعونه إلى كشفه إن شاءَ كشْفَه، والتقدير: بل إياهُ تدعونَوتنسونَ وقتَ الشدة ما تشركونَ مِن أصنامِكم، فلا تذكرونَها ولا تدْعونَها؛ لعلمكم بعدمِ نفعها.
و(بَلْ) للإضراب، وإبطالِ كلّ جوابٍ يُحتملُ أن يكونَ منهم عنْقوله (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) مخالفًا لقوله (بل إِيَّاهُ تَدْعُونَ) وقصْر القدرة لكشف الضر على الله دونَ سواه، يؤخذُ من تقديم المفعول (إياه) على الفعل (تدعون) والتقدير: بل إياه تدعونَ وتنسونَ وقتَ الشدةِ ماتشركونَ من أصنامِكم، فلا تذكرونها ولا تدعونَها؛ لعلمكم بعدم نفعها.
وقوله (فَيَكْشِفُ) أي يفرجُ ويزيلُ، و(مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ) ما موصولةٌوالعائد محذوفٌ، وضمير (إِلَيْهِ) عائد على الكشف المفهوم من الفعل يكشف، ومفعول (شاءَ) محذوف، تقديره: إن شاء كشفه، وجملة (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) معترِضة؛ لإطماعهم في رحمة اللهعندما يلتجؤونَ إليه، لعلهم يتعظونَ، وهذا الإطماعُ في كشفِ ضرِّهم يقعُ لهم بالفعل إذا أرادَه الله، والحكمة منه أنه قد يعيدُ بعضَهم إلى رشدِه، عندما يعاينُ عدمَ جدوى معبوداتِهم من دونِ الله، وفي هذا دليل على أن الله يجيب دعوة من التجأ إليه مضطرًا، ولو كان كافرًا.
(وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡبَأۡسَآءِوَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَتَضَرَّعُونَ)(42)
جملة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) معطوفة على التوعّد للمشركين بالعذاب، في قوله (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ) فذكرهم بعدها في هذه الآية بما نزل بأمم قبلهم، كذّبوا الرسل، وكيف أن اللهَابتلاهُم بالسراء والضراء، ولم يتعظُوا، فأخذهم الله بغتةً بالعذاب،وكانوا مثل ما كان عليه المشركونَ من التكذيب فذكرُ ما نزل بالمكذبين في الأمم الماضية هو تهديدٌ للمشركين من هذه الأمة أيضًا، كما في المثل: إياكِ أعني واسمعي يا جارة، أي: سيحلُّ بكم ما حلَّ بهم.
واللام في (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا) للقسَم (فَأَخَذْنَاهُمْ) أصبناهم، والتقدير: فكذبوا فأخذناهم و(بِالْبَأْسَاءِ) أي أخذناهم بالشدائد والفاقة (وَالضَّرَّاءِ) الضر وعذاب الدنيا، كالصعقِ والرِّجزِ الذي حلّ بأممٍ مِن قبلنا، والتضرعُ: التذلل والندم، أي عاقبناهم لأجل أن يتضرعُوا ويتوبوا ويندموا.
(فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتۡقُلُوبُهُمۡ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ)(43)
(لولا) للتوبيخ، أي: كان الأجدر بهم حين أصابتهم الشدائد أن يعتبروا، ويتضرعوا إلى الله، ويرجعوا إليه، ولكن قسَتْ قلوبُهم وتصلبُوا في العِناد ومضوْا في إعراضِهم (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فصور لهم ما هم عليه من الضلال والعناد بأنه خيرٌ،وأظهره لهم في صورة حسنةٍ، يستهويها القلبُ ويحبّها، وقد نسبَ الله تعالى التزيين إلى نفسه في آيات أخرى، قال تعالى: ﴿زَیَّنَّا لَهُمۡأَعۡمَٰلَهُمۡ﴾()، والتزيين في جانب الله معناه خلقُ التزيين والميلِ إلى ما تنخدعُ به النفس وإيجادُه في القلب.
(فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ)(44)
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا) (لمّا) هنا ظرف بمعنى حين، ونسوا: تركوا وأعرضوا عما ذُكّروا به مِن التخويف مِن سوء عاقبة تكذيبهم، وكانت (لمّا) هنا ظرفًا دون أن تكون شرطية؛ لأن معنى الشرطية كون الشرط سببًا للجواب، ولا يظهر أن يكون النِّسيان سببًا لفتح أبوابِ النعم، بل المعنى: حين نسُوا ما ذكروا به أخذتهم الغفلةُ، واستُدرجوا بالنعم.
و(كلّ) في (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) معناه كثرة النعم التي فتحت عليهم وغمرتهم، وليس معناه الشمولُ والتعميمُ لجميع ما خلقَالله من النعم؛ لأنّ ذلك لم يحصل لأحد، أي: أعطيناهم ومهدنا لهم أبوابًا كثيرةً من النعم يحبونها، وذلك أن الله ابتلاهم بالنعم بعد أن ابتلاهم بالنقم؛ لتنقطع حجتهم، قال تعالى: ﴿وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَیۡرِفِتۡنَةࣰ﴾().
وقد ذكرت الآيات قبل هذه أنه لم يزدهم التخويفُ بالعذابِ إلا إعراضًا وتعنّتًا، ولا التذكيرُ بما حلّ بمن قبلهم من الأمم إلا بُعدًا وتصلّبًا، حينها استُدرِجوا بالنعم، وفُتحت لهم أبوابها، فأَلْهَتهُم،وأقبلوا عليها ناسين ما ذُكروا به، فكانت لهم منزلقًا وفتنة، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا نُمۡلِی لَهُمۡ لِیَزۡدَادُوۤا۟ إِثۡمࣰا﴾().
والابتلاءُ بالنعم أشدُّ من الابتلاء بالنقم؛ لأنها تُنسِي المنعِمَ وتورِثُالغفلةَ، أمّا النقم فتذكرُ بالمنعم، جاء في حديث عقبة بن عامر أن النبي ﷺ قال: (إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ})().
وحتى في قوله (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا) ابتدائية، أي ما إنْفرحُوا واغتروا بما فتح عليهم من الخيرات والنعم، وظنّوا أنهم في مأمَن، حتى ابتدأهم العذابُ وجاءهم ما كانوا يوعدون، وهو المذكور في قوله (أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).
و(فَرحُوا) مِن الفرح، وهو البَطَرُ والإعجابُ بالنعم، ولذا قالوا: الفرحُ في القرآنِ كلّه مذمومٌ، ما عدا قولَه تعالى: ﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلۡیَفۡرَحُوا۟ هُوَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ﴾()، و(أَخَذْنَاهُمْ) أهلكناهم، و(بَغْتَةً) فجأة، منصوب على الحال، بتأويل مبغوتين، و(إذا) في قوله (فَإِذَا هُمْ) فُجائية، وهي ظرفُ مكان، والعامل فيها (مُبْلِسُونَ) أي يائسونَ متحيرون، بقُوا في مكانِ إقامتِهم، متحيرينَ آيسينَ، لا يقدرون على شيء.
(فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ)(45)
دابرُ القومِ: آخرُهم، من الدبرِ وهو الوراء، وقُطعَ من القَطع، وهوالاستئصالُ، أي فقُطعُوا واستُؤصِلوا على آخرِهم، حتى لم يبقَ منهمأحد (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: والحمدُ لله على قطعِ دابِرهم، وفيهأنه يُشرع الحمدُ على إهلاك الظالمينَ؛ لأن في إهلاكهم تقليلًا للشرور والآثام، والمعنى: أنَّ مَن كذّبَ الرسلَ من الأمم قبلكم، حين نسُوا وأعرضُوا عما ذكروا به مِن التخويفِ بالعذابِ، وبما حلّ بمن كانقبلَهم من النقَم، ولم ينتفعوا بما تعرّضوا له من الابتلاءِ بالبأساء والضراء، ابتُلوا ابتلاءً آخر بالسرّاء، ففتحتْ عليهم أبوابُ كلّ شيء، جاءتهم الخيراتُ وعمّتهم النِّعم من كل جانب، لكنّهم ما شكروا اللهعليها وعَرفُوا بها المنعم، بل زادتْهم زيغًا، وقادتْهم إلى البَطَرِوالإعجابِ بها والفرحِ بما أوتُوا، ففاجأتْهم العقوبة، وأخذَهُم عذابُ اللهعلى غيرِ توقّع، فأصيبوا في مكانهم بالذهولِ والحَيرة، يائسينَ، لا يقدرونَ على شيء، حتى استأصلَهم العذاب على آخرِهم، وقطعَدابرَهم، فحمِدَ الناسُ هلاكَهم.