طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (330)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (330)

[سورة الأنعام:71-74]

(قُلۡ أَنَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰٓ أَعۡقَابِنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسۡتَهۡوَتۡهُ ٱلشَّيَٰطِينُ فِي ٱلۡأَرۡضِ حَيۡرَانَ لَهُۥٓ أَصۡحَٰبٞ يَدۡعُونَهُۥٓ إِلَى ٱلۡهُدَى ٱئۡتِنَاۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۖ وَأُمِرۡنَا لِنُسۡلِمَ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ)(71)

أي هل يليق بِنَا أن ندعو غير الله، مما لا يقدرُ على نفعنا، ولا يقدرُ على ضرنا، وهي الأصنام التي كان يعبدها المشركون، ودليل عدم نفعها وضرها؛ أنها لم تنفع أتباعَها بإنزال الضرِّ بالمسلمين، الذين يسفهونها، ويسفهون مَن يعبدها.

والاستفهام في (أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ) إنكاري، وفاعل (أَنَدْعُو) ضمير يعود إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، والخطاب في (قُلْ) للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود بالقول هم المشركون؛ لتأييس أطماعهم في رجوع المسلمين عن دينهم، فقد كانوا يطمعون في عودتهم عن دينهم، ويسلكون إلى ذلك كل مسلك، مِن الترغيب والترهيب، وقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة: إن كنت تريد ملكُا ملّكنَاك، ولَا نقطعُ أمرًا دونَك.

وقوله (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا) أي وهل يليق بِنَا أن نرجع على أعقابنا، ففعل (نُردُّ) داخل في حيّز الإنكارِ؛ لأنه معطوف على قوله (أَنَدْعُو) والأعقاب جمعُ عَقب، وهو مؤخر القدمِ، ومعناه النكوص إلى الوراء، كما قال تعالى: ﴿فَكُنتُمۡ عَلَىٰۤ ‌أَعۡقَٰبِكُمۡ تَنكِصُونَ﴾([1])، فنرجع ناكصين على أعقابنا بالتلبسِ بالحال الفاسدةِ التي تركناها، وننقلب إلى الوراءِ، بعد أنْ مَنَّ الله علينا بالخلاص منها، وهدانا إلى الإسلامِ، فنصير (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) أي هل يليق بنا أن نردَّ ونصير متشبهين بالذي استهوتهُ الشياطين، يستهويه ما تحبه، وتُمنّيه به من الزخارف والتخيلات، فلعبت بعقله، وانقاد لها زمامه، هائمًا على وجهه في الأرض كالمسحور، حتى يصير متحيرًا لما أصابه من وسواسها، ومترددًا لا يهدأُ له بالٌ، ولا يقَرُّ له قرارٌ.

فـ(استهوتهُ الشياطين) مِن الهوَى وهو الميل لها والتعلق بها، و(حَيْرَانَ) متحيراً متردداً منصوب على الحال، وهذا الذي لعبت به الشياطينُ وأضلتْهُ (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا)، له أصحابٌ ورفقة مخلصون ناصحونَ، حريصون عليه، ينادونه وهو شاردٌ هائم على وجههِ، ذهبت به الشياطينُ كل مذهب، يقول له أصحابه الذين يدعونه إلى الهدى (ائْتِنَا) عُدْ إلينا، هذه طريقنا مستقيمة آمنة، فالصحبة والرفقة التي تناديهِ هي دين الإسلام، وطريقُ الهدى هي طريق القرآن، وهو مثالٌ لمن يَعبدُ الأصنامَ مِن المشركين، ولا يستجيب لمن يدعوه إلى الهداية.

وقوله (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى) ردٌّ على المشركينَ الذين لا يتوقفون عن دعوة المسلمين إلى دينهم، حتى عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد إلههم حينًا ويعبدوا إلهه حينًا، وكانوا يرون أنفسَهم على هدى، فردّ الله عليهم (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى) بأسلوب أفاد قصر الهدى على هدى الله ودين الإسلام وحده، بتعريف جزئي الإسناد، وتأكيده بضمير الفصل هو، أي قل لهم: إن هدى الله وهو الإسلام وحده الهدى، وما عداه فهو ضلال، وقل لهم: أمِرْنا بالإخلاصِ لأجلِ أنْ نسلمَ وننقادَ لربِّ العالمين.

فاللام في قوله (لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) يمكنُ أن تكونَ هي اللام التي تأتي بعد فعل الأمر والإرادة، بمعنى كي، وتضمر بعدها أنْ، وتفيدُ التأكيد، ويكون مفعولُ أُمِرْنَا الثاني مقدرًا، ويصحُّ أن تكونَ اللام بمعنى الباء، على معنى: أمرنا بالإسلام لرب العالمين.

(وَأَنۡ أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّقُوهُۚ وَهُوَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ)(72-73)

أي أمرنا بالإخلاص وبإقامة الصلاة، وأن أقول لكم: اتقوه، وأن أقول لكم (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)([2]) وأن أقول لكم (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) والحقّ هو الأمر الثابت الواقع على الصواب والحكمة والسداد، خلاف الباطل.

(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) خبر مقدم، و(قَوْلُهُ الْحَقُّ) مبتدأٌ مؤخر، ووقت هذا القول وهو كن فيكون هو يوم ينفخ في الصور، والنفخ في الصور هو إعلان القيامة، والصور: البوقُ، والذي يَنفخُ فيه إسرافيل، ومقول القول هو كن، ومعناه وقوع ما أراد الله من التكوين بقول الحق وفعله في ذلك الوقت، بالبعث من القبور وحشر الناس للحساب، وتقديم الجار والمجرور في (وَلَهُ الْمُلْكُ) للاختصاص، فليس لأحد ملك في ذلك اليوم، كما قال تعالى: ﴿‌لِّمَنِ ‌ٱلۡمُلۡكُ ‌ٱلۡیَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ﴾([3])، وقوله (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي هو العالم بكل شيء، ما غاب وما حضر، فلا تخفى عليه عند حسابهم خافية، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي تدبيره محكم، وصنعه متقن، وعلمه كامل.

(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّيٓ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ)(74)

محاجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه في هذه الآية عطف على محاجة النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين في قوله (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا)، ومحاجة إبراهيم عليه السلام وإنكاره الشرك على أبيه، يدل على أن حرمة الدين أعظم من حرمة المخلوق أيًّا كان، ولو كان في منزلة الأب.

والتقدير واذكر يا محمد (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) و(آزر) الأكثرون على أنه اسم أو لقب لأبيه، على أنه عطف بيان أو بدل من أبيه، أو منادى، فيكون إبراهيم عليه السلام ناداه باسمه تغليظًا عليه، بعد أن استعصى عليه، ولذا ردَّ عليه أبوه بقوله: ﴿‌یَٰۤإِبۡرَٰهِیمُۖ ‌لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَ﴾([4])، وقيل: آزر اسم صنم كان يخدِمه ويعبده، منصوب بفعل يفسره ما بعده، تقديره: أتعبد آزر؟

والاستفهام في قوله (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) إنكاري، واتخاذ الشيء اختياره بعناية، والأصنام جمع صنم، وهي الأوثان المصورة على صورة إنسان أو حيوان، وكانوا يعبدون الكواكب، وجعلوا لكل كوكب على الأرض صنمًا يعبدونه، فكان إنكاره عليهم من جهتين: من جهة جعلهم الحجر والصنم إلهًا، ومن جهة تعدده، وهو ما يشير إليه ذكر الأصنام والآلهة بصيغة الجمع، وقوله (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي إني أراك وأبصرك رؤية مشاهدة، وكذلك أراك رؤية عِلم ويقين، أنت وقومك في ضلَال واضح بَيّنٍ، فلم يكتف بتضليل أبيه، بل أضافَ إليه في الضلال قومه معه؛ تيئيسًا لأبيه من طمعه فيه، لأن الأب كان يظن أن ابنه كان يناصحه مناصحة، ولا يصل به الحال أن يرمي قومه جميعًا بالضلال.

 

[1])    المؤمنون: 66.

[2]) (أنْ) يمكن جعلها مصدرية، دخلت على فعل الأمر، أو تكون تفسيرية؛ لما في أمرنا من معنى القول دون حروفه، و(أَقِيمُوا) عطف على موضع المفعول المقدر في أمرنا، أو تكون عطفا على قوله (لِنُسْلِمَ)، والتقدير: أمرنا بالإخلاص لأن نسلم وأن أقيموا الصلاة، والأول أجود، وقوله (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وقوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) جملتان، كل منهما معطوف على (وَاتَّقُوهُ) عطف خبر على إنشاء، والصحيح جوازه، وكلٌّ من الجملتين داخل في مقول القول، المأمور به في قوله (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى)، وتعريف الجزئين في الجملتين يفيد الحصر؛ ففي الأولى قصر كون الحشر إلى الله لا إلى غيره، وهو يستلزم البعث الذي ينكرونه، وفي الثانية قصر خلق السموات والأرض على الله، وهم يقرون به، وهو كناية عن لازمه، وهو استحقاق الله للعبادة؛ لأنّ مَن لا يَخلقُ غيرُه لا يُعبدُ غيرُه، وتقديم الجار والمجرور (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يفيد تأكيد اختصاصِه بالحشر.

[3])    غافر: 16.

[4])    مريم: 46.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق