حبس على الذكور دون الإناث
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5529)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
جاء في وثيقة تحبيس ما نصه: “حضر لدى كاتبه م م ع وأخيه ق م ع من أولاد م ع، من سكان ق إحدى قرى ح، من متعلقات قضاء قائمقام ن، وأشهدونا على أنفسهما أنهما تركوا وتداركوا وحبسوا على بعضهما بعضا جميع ما بأيديهما، وما يسعونه من إبل وبقر وغنم وخيل وعقارات ديار وأشجار وأراضي ودراهم مسكوكة وغير مسكوكة، داخلا وخارجا في بلد سكناهم أو مرقس وكافة قرى القضاء وغيره أينما بان وتعين، من جميع ما بأيديهما وما يسعونه وما يدخل تحت تصرفهما عموما شائعا وغير شائع، وحديد وقلال وسلاح، وكل ما يطلق عليه اسم مال وله خطر وبال إلا وقد تداركوا فيه وتركوا وأوقفوا على بعضهما بعضا، لا خصوصية لأحدهما على الآخر، متى تصرف أحدهما لا يمنعه الآخر، ما دامهما على قيد الحياة، وإن مات أحدهما وخلف بنين فإن كانوا ذكورا قام مقام أبيهم، وإن كانوا إناثا فالحي هو المنفق عليهم بحسب الوقت خصب وجدب إلى أن يكتفوا بزواج أو مال، لا ورث ولا شيئا لهم، وإن لم يخلف أحدا فالمال مال الحي يختص به، لا يرث معه الزوجات ولا البنات ولا الأخوات وكافة الإناث، لا يرث الإناث مع الذكور ولا الفروع مع الأصول، بحسب ما وقع اشتراطهما وتبرعهما على بعضهما بعضا، وأذنا لقبول ذلك عن بعضهما، فقبلا من بعضهما بعضا قبولا تاما وحازا عن بعضهما بعضا حوزا صحيحا شرعيا معتبرا وتصريفا تاما، من تبديل السروج ولبس الثياب وجني الأثمار وغير ذلك، ومفاتيح وغلق الأبواب وفتحها، وسلما لبعضهما أتم التسليم، كيفما قرر وحدد وذكر أعلاه، بنص وشرط ما ذكر أعلاه، وبذلك شهد عليهما من سمع منهما عارفا لهما وهما بحالة الصحة والجواز، بتاريخ أواسط رجب سنة ستة عشر وثلاثمائة وألف 1316، حبسا مؤبدا إلى أقصى غاية وأبعد نهاية.
ع م خ ك 1316 (ختمه ودمغة). وبمثله الفقير لربه ع م ع، تيب الله عليه، آمين (ختمه).
فالحبس المذكور أعلاه صحيح حيث جعل فيه مرجعا للأبناء/ قاله وكتبه م ع م.
حضر لدينا م م ع، من أهالي وسكان قرية س وأفراد قبيلة هـ، وصادق بما تضمنه هذا الكاغد؛ ولذلك أعطي هذا الشرح تصديقا عليه تحريرا في 22 من ربيع الأول سنة 1321 نائب الشرع بقضاء ن” فما حكم الحبس المذكور؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالحبس على الذكور دون الإناث هو محل اختلافٍ بين أهل العلم، والصوابُ الذي ترجحه الأدلة الشرعية أنه غير جائزٍ شرعًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ) [البخاري: 2587]، وفي المدونة: “رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَن عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها إذَا ذَكَرَتْ صَدَقَاتِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَإِخْرَاجَ الرِّجَالِ بَنَاتهم مِنْهَا، تَقُولُ: مَا وَجَدتُّ لِلنَّاسِ مَثَلاً الْيَوْمَ فِي صَدَقَاتِهِمْ، إِلّا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ خَالِصَةٞ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِنَاۖ وَإِن يَكُن مَّيۡتَةٗ فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُۚ﴾” [المدونة:4/423]، وقال الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه: “إِنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ” [شرح الخرشي:5/88]، وهو اختيار الشيخ خليل رحمه الله في المختصر، قال: “وَحَرُمَ – أَيْ الْوَقْفُ – عَلَى بَنِيهِ دُونَ بَنَاتِهِ” [مختصر خليل: 212]، وهو المعتمد في أكثر المذاهب.
والحبس على الذكور دون الإناث باطلٌ بالقانون الصادر سنة 1973م، المستند للفتوى الشرعية الصادرة من مفتي ليبيا السابق؛ الشيخ الطاهر الزاوي رحمه الله، التي أيّدها قرار مجلس البحوث والدراسات الشرعية التابع لدار الإفتاء الليبية، رقم (1) لسنة 1443هــ 2022م، بتعديل القرار رقم (2) لسنة 1435هـ 2014م بشأن الوقف المعقب، ونصّه: “1- التأكيد على ما جاء في فتوى دار الإفتاء السابقة، من إلغاء الوقف على الذكور دون الإناث والقانون الذي وافقها في هذا الخصوص.
2- بطلان هذا النوع من الوقف من تاريخ صدور القانون رقم 16 لسنة 1973م، ما لم يحكم به حاكم؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ويعمل بهذا القانون القاضي ببطلان عموم الوقف الذري، بالشق الخاص منه بالوقف على الذكور دون الإناث في الطبقة الأولى خاصة؛ لما فيه من الحيف والجور دون غيره من الوقف الذري، الذي لا جور فيه؛ لأنه يدخل في أبواب البر.
3- تتم قسمة الوقف الذي حكم ببطلانه على ورثة المحبس الموجودين من الذكور والإناث وقت نفاذ القانون، بتاريخ: 24 /04 /1973م، ويعتبر المحبس كأنه مات في هذا التاريخ، فمن مات أصله قبل سنة (1973م) وكان هذا الأصل أنثى؛ فإنه لا يرث، ولا يدخل في القسمة، ومن استحق شيئًا من الموجودين يوم تاريخ إلغاء الوقف بمقتضى الفريضة الشرعية؛ ذكورًا وإناثًا، فله التصرف في نصيبه بالبيع والهبة ونحو ذلك”.
عليه؛ فيقسم الحبس المذكور – المُفْتَى ببطلانه – على ورثة المحبس، بتقدير موته بتاريخ: 24 /04 /1973م، وينتقل نصيبهم إلى ورثتهم من بعدهم، فمن كانت حيّةً من بنات المحبس في التاريخ المذكور؛ فإن لورثتها المطالبة بنصيبها، ومن توفيت قبل هذا التاريخ؛ فليس لورثتها المطالبة به، ولا يعد قول القاضي: (صدقت على ذلك) -كما في الوثيقة المرفقة- حكمًا يرفع الخلاف على المشهور في المذهب، بل هو مجرد إخبار منه بتسجيل ما ذكر عنده، واطلاعه عليه، صالحًا سالمًا، فهو بمنزلة قوله: (ثبت عندي)، قال التسولي رحمه الله، عند ذكره لقول خليل رحمه الله: ورفع الخلاف لا أحل حرامًا: “وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: ثَبَتَ عِنْدِي كَذَا هَلْ هُوَ وَالْحُكْمُ بِمَعْنى أَوِ الثُّبُوتُ غَيْرُ الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوَابُ” [البهجة شرح التحفة: 1/33]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عصام بن علي الخمري
عبد العالي بن امحمد الجمل
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
18//شعبان//1445هـ
28//02//2024م