المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (335)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (335)
[سورة الأنعام:96-99](فَالِقُ ٱلۡإِصۡبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيۡلَ سَكَنٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ حُسۡبَانٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ)(96)
(فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) تقدم معنى الفلْق، وهو الشق والصدع، والإصباح: النور وضوء الفجر، وفالق الإصباح: فالق ظلمة الليل، ومخرج منها ضياء الفجر، وقد أمرنا بالتعوذ برب الفلق، في قوله: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾([1])، وهو الصبح الذي خرج من انغلاق الظلمة.
وقوله: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) أي جعله سكنًا يشعر الساكن إليه بالراحة والهدوء والطمأنينة، كما جعلت الزوجة والبيت سكنًا([2])، فرحمة الله بعباده أن جعل لهم الليل للراحة، وذلك من أعظم نعمه عليهم، فمن رحمة الله أن قسم الوقت بين ليل فيه يسكنون ويستريحونَ مِن كدِّ الحياة وكبدها، وبين نهار يتجدّد نشاطهم فيه للعمل والعطاء.
وقوله: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف على قوله (اللَّيْلَ سَكَنًا) أو منصوبتان بفعل مقدر، تقديره: وجعل الشمس والقمر، والحسبانُ بالضم والكسر مصدر كالغفران، والعِرفان، مِن حَسبَ الحساب، أي جعل الشمس والقمر للناس علامة لحساب أوقاتهم ومعرفة أزمانهم، فالله جعل الشمس والقمر آيتين من آياته، يعرف بهما الحساب، ويستدل بمنازلهما ودورانِهما على السنين والأيام والشهور، ولم يكتف بواحد منهما؛ لأن بعض الناس يوقّتون بالشمس، وآخرونَ بالقمر، والشمس هي التي يعرف بها اليوم، الذي تتكون منه الشهور والسنون، والسنة الشرعية قمرية؛ لقوله تعالى: ﴿یَسۡءَلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِیَ مَوَٰقِیتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾([3]).
وقد عرف المسلمون السنة الشمسية ودخلت عندهم في دواوين الخراج، لأن الخراج له علاقة بغير المسلمين، وذلك الجعل والتسيير للشمس والقمر، المفهوم من (فَالِقُ) و(جَاعِل)، وما فيه من منافع حساب الأوقات وغيره؛ محكوم بتقدير من الله، ونظام ثابت لا يتغير، تقدير العزيز القوي الغالب، الذي سخرهما على ذلك النظام، لا يخرجان عنه، والذي أحاط بكل شيء علمًا.
(وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهۡتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ)(97)
أي وهو الذي خلق النجوم لأجلكم، فاللام للتعليل، والمعنى: من نِعَم الله عليكم أن خلق لكم النجوم؛ لما فيها من المنافع الكثيرة، منها ما ذكره في قوله (لتَهتَدُوا بِهَا في ظُلماتِ البَرِّ والبَحْرِ) أي لأجل أن يهتدي بها السائرون في ظلمات البر والبحر، وخلق هذه الأجسام العظيمة التي لا يعلم عددها إلا الله، دليل على عظمة قدرةِ الله ووحدانيته، واستحقاقه لأن يعبد دون سواه؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا هو.
وقد فصّل الله الآيات والدلائل في هذا الموضع وفي غيره من القرآنِ على وحدانيته وعظمته، تفصيلًا غايةً في البيان والوضوح، ولا ينتفع بذلك إلا العالمونَ، والعالمون في قوله: (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) هم من ينتفعونَ بالآيات، فمَن لا ينتفع بهذا التفصيلِ للآيات فهو والجاهلُ سواء.
فالنجوم جمع نجم، وهو جسمٌ يدور في الفضاء، مضيئ تتولد منه حرارة، وليس القمر نجمًا، بل هو والأرض من الكواكب التي تدورُ حول الشمس، والإضافة في قوله: (فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) على معنى (فِي) كما في قوله: ﴿بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ﴾([4]).
(وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسۡتَقَرّٞ وَمُسۡتَوۡدَعٞۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَفۡقَهُونَ)(98)
جملة (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) عطف على قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) وقوله (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) هي نفسُ آدمَ، وقوله: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) تفريعٌ عن خلق آدم، أي تفرعَ عن خلقه تكاثر البشر الهائل، ووسائل هذا التكاثر (مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي نطف مستقرةٌ في الأصلاب ومستودعةٌ في الأرحام ثم بعد ذلك في القبور، أو فمستقر للخلائقِ على وجه الأرض، بعد أن تخرج إلى الدنيا، ومستودع لها في بطن الأرض عند الموت، تودعُ فيها إلى البعث من القبور؛ وأصلُ مستقر مِن الاستقرار، بمعنى القرار والمكث في المكان، ومستودع من الوديعة، التي تترك مؤقتا ليعود صاحبها لأخذها، فاستقرت النطف في الأصلاب، ثم ودعت في الأرحام، واستقرت بعد خروجها إلى الحياة على وجه الأرض مدة أعمارها، ثم استودعت عند الموت في القبور إلى يوم البعث، فمستقر ومستودع إما اسمُ مكان، بمعنى موضع ومكان الاستقرار والاستيداع، أو مصدر ميميّ بمعنى فاستقرار واستيداع.
وهذا التفصيل للأدلة على وحدانية الله بينٌ غايةَ البيان لقوم يفقهون، ذوي أفهام وفهم دقيق، وقال هنا (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) وفي الاهتداء بالنجوم (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأن مظهرَ خلق النجوم ظاهر مشاهد، فاكتفي فيه بظاهر العلم، بخلافِ خلق الإنسان من نفس واحدة مرورا بأطوار خلقه، فيحتاج التعرف عليه إلى نظرٍ وتأمّل وفهم، وهو معنى الفقه في قوله: (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ).
(وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ)(99)
جملة (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) عطف على قوله (وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفسٍ وَٰحِدَةٍ) أي إن الله الذي أنشأكم من نفس واحدة امتنّ عليكم بإنزال الماء من السماء فأخرج به لكم أصناف النبات من كل شيء، و(كُلِّ شَيْءٍ) أي كل صنف من أصناف النبات، فمنه ما له ساق لينة كالبرسيم والحبوب، ومنه ما ساقه خشنة كالشجر وَالنَّخْل، ومنه لاصق بالأرض كالعشب، فهو أصناف تسقى بماء واحد، الماء واحد والأشكال والثمار مختلفة. فـ(مِن) في (من السماء) ابتدائية، والسماء: السحاب، أي ابتداء تجمع ماء المطر من السحاب، والباء في: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) للسببية، والضمير يرجع إلى الماء، وقوله (نَبَاتَ) ما ينبت، والفاء في: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا) للتفصيل المترتب على تفريع إخراج كل صنف من أصناف النبات عن إنزال الماء في قوله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)؛ فمن النبات الخضرُ، وهو ما تكسوه الخضرة وليس في ساقه يبوسة، كما في الشجر، فالخضر كالزرع والعشب، و(نُخْرِجُ مِنْهُ) نخرج من الخضر، فـ(مِن) تبعيضية (حَبًّا مُتَرَاكِبًا) نبات الحب: ما له ساق لينة كالقمح والشعير وشبهه، ومتراكبا: متلاصقًا بعض حبه في السنبل، متراكبًا فوق بعض.
وجملة (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) عطف على قوله (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا)، فنخرج من النبات خضرا، ونخرج من النخل (مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) والطلع: وعاء العُرجون، أول ما يخرج مغلقًا، فإذا انفتح يوضع فيه طلع ذكر النخل، ويسمى حينها إغريضًا، وهو بداية العرجون، والقِنوان جمع قنو بالكسر والضم، وهو العرجون، ودانية قريبة في متناول الواقف، يتناولها دون تكلف ولا حاجة آلة، وهو تصوير لتمام المنة بهذا النوع من الثمار، والعرجون يسمى قنوا ويسمى عِذقا بالكسر.
(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ) على قراءة النصب عطف على (خضرا)، وعلى قراءة الرفع مبتدأ خبره مقدر، أي (وجناتٌ من أعناب أخرجناها)، و(من) في (مِن أعنابٍ) بيانية، أي: ونخرج من الخضر جنات هي أعناب، والأعناب جمع عنب، تطلق على شجرة الكَرْم أي العنب وعلى الثمرة ذاتها.
(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) الزيتون والرمان يطلق كلاهما على الثمرة التي تؤكل، وعلى الشجرة التي تثمر و(مُشْتَبِهًا) منصوب على الحال، بعض الزيتون والرمان مشتبه في اللون والطعم والريح والكبر والصغر، وبعضه غير متشابه (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أي انظروا واعتبروا بثمار النخل والأعناب والزيتون والرمان، وتطور أحوالها، مِن بدء تخلقها، وهي لا تصلح للأكل، غير مرغوبة المذاق ولا اللون، إلى أن تصير يانعة ناضجة كبيرة زاهية حلوة المذاق طيبة الريح، وانظروا إلى اختلاف ألوانها وأحجامها ومذاقها وريحها، وهي تسقى بماء واحد، كما قال تعالى: ﴿وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَٰحِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِ﴾([5]).
والثمر بالمثلثة يجمع على ثمر كخشبة وخشب، وعلى ثمار ككتاب، وهو الجنْي وقت قطافه غريضا رطبا، والتمر – بالمثناة المفتوحة وميم ساكنة – بعد يبسه وتجفيفه (وَيَنْعِهِ) من ينَع يينَع ويينِع، إذا طاب ونضج.
والإشارة في قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إلى كلّ ما تقدم، من قوله (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) وما ذكر بعده، ففي ذلك كلِّه دلائل وآيات باهرة على عظيم قدرة الله، واستحقاقه وحده أن يعبد ولا يشرك به شيئا.
[1]) الفلق:1.
[2]) وقرئ (وَجَاعِلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله، فالمضاف إليه محله النصب بجاعل، وعند مَن يشترط في عمل اسم الفاعل أن لا يكون دالا على الماضي – كما هنا – يكون (اللَّيْلَ) معمولا لفعل مقدر، دل عليه اسم الفاعل جاعل، أي صيَّر الليل سكنا (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) معطوفًا عليه بالنصب على المحل، و(سكنًا) مفعول ثانٍ، على معنى مسكونًا إليه.
[3]) البقرة:189.
[4]) سبأ: 33.
[5]) الرعد:4.