المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (343)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (343)
[سورة الأنعام:128-129]
(وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ قَدِ ٱسۡتَكۡثَرۡتُم مِّنَ ٱلۡإِنسِۖ وَقَالَ أَوۡلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلۡإِنسِ رَبَّنَا ٱسۡتَمۡتَعَ بَعۡضُنَا بِبَعۡضٖ وَبَلَغۡنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيٓ أَجَّلۡتَ لَنَاۚ قَالَ ٱلنَّارُ مَثۡوَىٰكُمۡ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ)(128)
بعد أن ذكر الله أنّ الجنة للمؤمنين، ذكر مصيرَ أتباع الشياطين من الإنس والجن، وذلك يوم يحشرهم جميعًا، يوم يبعثون ويساقون إلى المحشر للحساب، أي واذكر يوم يساقون جميعا إلى المحشر، ونقول لهم (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي يقال لجماعة شياطين الجن توبيخًا لهم: قد استكثرتم وانتفعتم من الإنس، بطاعتهم لكم عندما أغويتموهم، وزينتم لهم الكفر والمعاصي، فكثَّروا أتباعكم.
وقال أولياء الشياطين وأنصارهم من الإنس، معتذرين عن شياطينهم من الجن الذين أغوَوهم (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) كلٌّ منا قد انتفع بالآخر في تحقيق أغراضه، وتبادلْنا المصالح، ووجه هذا الانتفاع أن بعضَ الإنس انتفع من شياطين الجن بتزيين الشهوات، وإلقاء الشبهات للإضلال، كالتعوذ بهم، والالتجاء إليهم، وقضاء الحوائج، والخوف منهم، والزعم أنهم يقدرون على أن يضروهم، فيلتجؤون إليهم، ويطيعونهم فيما يطلبونه منهم من المعاصي والكفر والشركيات، كالذبح للجن وغير ذلك، فهذا ونحوه نوعٌ من الاستمتاع المتبادل بين شياطين الإنس وشياطين الجن، كلٌّ يُكثِّر بهذَا الاستمتاع جنده وأتباعه.
فالمعشر في قوله (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ): الجماعة التي يجمعها أمر واحد، كالرّهط والفئة والفريق، و(الْجِنِّ) هم شياطين الجن، ومن أطاعهم من عامّة الجن، و(قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ) من الكثرة، صرتم كثرةً كاثرةً بالأتباعِ الذين أطاعوكم من الإنس والجن، فالسين والتاء في (اسْتَكْثَرْتُمْ) للمبالغة، كما في استكبر واستسلم.
وقوله (وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) تتميمٌ لكلام الإنس، أي قال الإنس الذين أضلتهم الشياطين في القيامة: ربنا استمتعنا نحن والجن وانتفع بعضنا ببعض في الدنيا وبلغنا الأجل الذي أمهلتنا إليه، وتوعدتنا بعده بالعذاب، وها نحن واجهنا مصيرنا، فما بقي لنا عذرٌ، وهذا الكلام والذي قبله وقع الإخبار عنه بالفعل الماضي (قَالَ) مع أنه سيُقال في الحشر، وذلك لتحقّق وقوعه، حتى كأنه وقع بالفعل، قال الله جوابا لشكواهم التي لا فائدة لهم منها (النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ).
فهذا القول (النار مثواكم) هو من قول الله لهم في المحشر.
و(مَثْوَاكُمْ) من الثوى، وهو المأوى ومكان القرار الدائم، وسياق الخطاب في الآيات هو للكافرين، بدليل قوله فيما بعد (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).
وقوله (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) فيه إشكال، فإنه معلوم من قطعيات الشريعة أن الله لا يغفر أن يشرَك به، وأن خلود الكافرين في النار ليس له أمد، ولا استثناء فيه، لذا فقوله (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) إذا حمل الخطاب فيه على أنه مخصوص في المحشر بالكفار، فإنه يحمل على أحد وجهين:
الأول: أن الله تعالى استثنى قومًا قد سبقَ في علمه أنهم يستفيدونَ من هذا الوعيد، عند سماعهم له في الدنيا، ويُسلمون، فهؤلاء هم الداخلونَ في المشيئة، وهذا التفسير مروي عن ابن عباس( )، وتكون (مَا) في قوله (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) بمعنى (مَن)، أو تكون مصدرية، أي: إلَّا في حالة مشيئة الله توفيقَ بعضهم للإيمان عند سماعِ مصيرهم الذي حُذّروا منه.
الوجه الثاني: أن يكون الخطاب في قوله (النَّارُ مَثْوَاكُمْ) لأهل المحشر جميعًا، مسلمهم وكافرهم، ويكون الاستثناء راجعًا إلى العصاة، فإنهم يخرجون من النار بمشيئة الله، ويكون قوله فيما بعد (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) صادرًا في المحشر من الكفرة دون غيرهم، وخوطبوا في المحشر بقوله (النَّارُ مَثْوَاكُمْ) وفيهم المؤمنون، على اعتبار أن أكثرهم مستحِقون النار، وأهل الإيمان قليل بالنسبة إلى غيرهم، كما قال تعالى قبل هذه الآيات (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) والقليل المؤمنون هم مَن أُخرجوا بالاستثناء في قوله (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ).
وقوله (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تذييل يُبين حكمةَ الله فيما يفعله بعباده، وإحاطةَ علمه بهم.
[الأنعام: 129، وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعۡضَ ٱلظَّٰلِمِينَ]
ﵟوَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعۡضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعۡضَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَﵞ
الكاف في (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي) للتشبيه، أي ومثل الموالاة الحاصلة بين الجن والمشركين بالإغواء والإضلال، نولي بعض الظالمين بعضًا للتعاون على الإثم والعدوان وبتسليط بعضهم على بعض في كلّ الأزمان، ففي الآية تحذيرٌ من الركونِ إلى الظالمين ومناصرتِهم، وأنّ مَن أعانهم تعجلَ هلاكَه، كما أنّ قوله (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) يدلّ على أن كل مَن ناصر الظالم اكتسب اسمَ الظلم، وصار ظالمًا مثله، قال تعالى: ﴿وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُ مِنۡهُمۡ﴾( ).
ففعل نولي يكون من والَى، أي نجعله وليًّا، بمعنى مناصرًا وحليفًا، فكما أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض يتناصرون، فكذلك الظالمون بعضهم أولياء بعض يتعاونون على عداوة المؤمنين، ويكون الفعل نولي أيضًا من وَلِيَ، بمعنى نجعله واليًا ومتسلطًا على غيرِه، والظالمون في الآية وإن كانوا هم المشركين، فهم متسلط بعضهم على بعض، وأنَّ الظالمَ من الجن أيضًا متسلطٌ على المؤمنين.
فالآيةُ قاعدةٌ عامةٌ في تسلط الظالمينَ من الإنس والجنِ بعضِهم على بعضٍ، في كلِّ وقتٍ، فإنهم وإن كانوا يتحالفونَ فيما بينهم ويتعاونون على الشر، فسرعانَ ما ينقلبُ بعضهم على بعضٍ، ويتخلصُ القوي منهم من الضعيف، وكذلك هو سنّة ماضية في الظالمين، فإن مَن أعانَ ظالمًا سلطهُ الله عليه، وهو قانونٌ أيضًا في علاقةِ الراعي بالرعية، فإن الرعية إذا كانوا ظالمينَ يسلطُ الله عليهم ظالمًا مثلهم، فالله تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾( ).
والباء في قوله (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) للسببية، فما يصيبهم من تسلط بعضهم على بعض هو بسببِ كسبِهم وجنايتِهم على أنفسهم﴿وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾( ).