حكم التعدي على أملاك المهجرين
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (2859)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
عقب توقف المعارك في منطقة الليثي بمدينة بنغازي؛ رجع بعض السكان إلى بيوتهم، وشهدت تلك الأحياء عمليات ممنهجةً لإحصاء البيوت، التي لم يرجع إليها أصحابها، عن طريق نقاط تسمى (النقطة الأمنية)، وتتبع جهاز الأمن الداخلي وكتيبة أولياء الدم، ثُمّ تسليمها بعد ذلك إلى عائلاتٍ نازحةٍ؛ إما من بنغازي، أو من خارجها.
وعليه؛ نأمل منكم توضيح الحكم الشرعي في التالي:
هل يجوز لأحدٍ أخذُ البيوت، التي لم يرجع إليها أصحابها، وتسليمُها إلى عائلات نازحة، أو غيرهم؛ لحل مشكلتهم السكنية؟
وهل يجوز للمتغلب على حيٍّ أو مكانٍ، أخذ أموال الناس المهجرينَ، وتخصيصُها لآخرينَ؟
وهل يجوز للنازحين أو غيرهم، قَبول هذه البيوت والسُّكنى فيها، دون إذنٍ مِن أصحابها؟
وهل عقوباتُ التعدي على أملاك الناسِ في الشريعةِ، تشملُ مَن يرى الظلم ويسكتُ عنه، أم أنها تخصُّ مَن يُباشرُه، ممّن خُصّصت له البيوتُ أو مكّنه منها؟
وأخيرًا؛ هل يمكن رفع دعاوى قضائية مِن المتضرّرين، في محاكمَ لا تقعُ في نطاقِ مكانِ الاغتصاب؟
أفيدونا أفادكم الله.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الله حرم أموالَ الناس تحريمًا غليظًا، وجعلها كحرمةِ الدماء والأعراض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ).
والحاجةُ لا تبيحُ التعدي على أموال الناسِ دونَ رضاهم؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ﴾، بل البيوت في دين المسلمين لها حرمة؛ وخصوصية، تمنعُ دخولها دون استئذان، لا يحلّ دخولُها مِن غيرِ استئذانٍ، حتى لو كان أصحابُ البيوتِ داخلَها، فكيفَ إذا أُجبروا على تركِها، ثم تؤخذُ منهم قهرًا، وتعطَى لغيرهم، فهذا مِنْ أفحشِ الظلمِ، وأشدّه على مرتكبه.
وعليه؛ فما ذكر في السؤال هو ظلم وغصب لأملاكِ أُناسٍ، يُعانونَ مرارَةَ النزوح والتهجير، قال تعالى: (أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن اغتصبَ شبرًا مِن أرضٍ طوقه يوم القيامة من سبع أرضين). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يَحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبِ نفسٍ منه).
وما ذُكر من الوعيد يشترك فيه الساكن في البيت، ومَن مكّنه منه مِن الظلمة، أو أعانَه عليه، فإنّ الدالّ على الشر مثل فاعله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومَن دَعا إلَى ضلالٍ كانَ عليه مِن الوزرِ مثلُ أوزارِ مَن دَعاه، لا ينقصُ مِن أوزارهم شيءٌ).
والساكنُ في البيتِ المغصوب، هو منغمسٌ في معصية الله، متقلب فيها، متلبس بها على الدوام، مقيمٌ عليها ليله ونهاره، صباحه ومساءه، في كلّ أوقاتِه، فهو في الحرام حتى في صلاته وعباداته، فقد اتفق أهل العلم على أن الصلاة في الدار المغصوبةِ حرامٌ، وذهبَ طائفةٌ كبيرة منهم إلى أنّها باطلة، لا تصح، كأن صاحبَها لم يصلِّ؛ لأنها داخلة في النهي عن الغصب، والنهي يقتضي الفساد.
وكلّ مَن يقدرُ من الأعيان أو الجيرانِ، على منعِ هؤلاءِ الظلمةِ مِن التعدي على البيوتِ؛ يجبُ عليه أن يمنعَهم، ولا يَجُوزُ له السكوتُ على ذلك، ومَن لم يقدرْ؛ فيجبُ عليه أن ينكرَ بقلبهِ، ولا يرضَى بالظلمِ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِن لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ).
وعدمُ التعاون على رفع هذا الظلمِ وإزالةِ المنكرِ، يستوجب العقوبةَ، التي تعمّ الصالحَ والطالحَ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْهُ).
والتوبةُ مِن هذا الظلمِ واجبةٌ على الفورِ، قبلَ الفواتِ، ولا تتم التوبةُ إلّا بترك البيوتِ، وردّها إلى أصحابِها، أو استرضائِهم وتطييبِ أنفسِهم.
ومما يترتب على هذا التعدّي؛ تعميقُ الكراهية والانقسام والعداوات بين الناس، مما يطيل أمدَ الفتنة والمعاناة.
وعلى أهل مدينة بنغازي أن يتقوا الله في إخوانهم، ويأخذوا على أيدي الظالمين، ولا يعينوهُم على الإثم والعدوانِ، لعل الله أن يتداركَ البلاد بعفوه.
أما عن محلّ رفع الدعوى؛ فإن كثيرًا مِن أهلِ العلمِ يجيزونَ سماعَ الدعوَى على الغائبِ في العقاراتِ ونحوِها، والقولُ عندَهم في محلِّ رفعِ الدعوَى للمدّعي لأنهُ الطالبُ للحقِّ، ولأنّه إذَا تَرَكَ تُرِكُ، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
12/جمادى الآخرة/1437هـ
21/مارس/2016م