المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (363)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (363)
[سورة الأعراف: 35-37](يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ إِمَّا يَأۡتِيَنَّكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ)(35-36)
المخاطبُ بقوله (يَا بَنِي آدَمَ) هنَا عمومُ الأمَمِ منذ أن أتتْهم الرسل، وليس الخطاب لهذه الأمةِ وقت نزول القرآن؛ لأنّ حمل (يَأْتِيَنَّكُمْ) و(يَقُصُّونَ) بصيغة الجمع على النبي صلى الله عليه وسلم خلافُ الظاهر، مع ما في (يَأْتِيَنَّكُمْ) من الاستقبال بإتيان الرسل، وليس بعد نبينا صلى الله عليه وسلم رسلٌ؛ لأنّه الخاتم والحاشر والعاقب.
ومعنى الآية؛ أنَّ الله تعالى يقولُ لكلِّ مَن جاءتهم الرسل، وقصَّت عليهم آياتِه ووحيَه وذكّرتهم به: إن مَن اتقى منهم وأصلحَ واتبع هدي الرسلِ، فلا خوف عليهم من العذابِ، ولا حُزن عليهم لمَا فاتَهم من الثواب، والخوف المنفي عنهم هو مِن عذابِ الآخرة، وكذلك ينتفي عنهم الخوفُ من عذاب الدنيا بقدر منزلتهم عند ربهم، ووثوقهم بحفظه ورعايته، والتعلقِ به، وأن الذين كفروا وكذبُوا متوعَّدونَ بعذابٍ ونارٍ هم فيها خالدون.
و(إِمَّا) في (إمَّا يَأتيَنَّكُمْ) مركبةٌ من إنْ الشرطية و(مَا) صلةٌ لتأكيدِ معنى الشرط، وللدلالةِ على العموم، وغالبًا ما يأتي الفعلُ بعدها مؤكَّدًا بنونِ التوكيد، و(يَقُصُّونَ) يَتلون، كما ورد في الآية الأخرى: ﴿یَتۡلُونَ عَلَیۡكُمۡ ءَایَٰتِ رَبِّكُمۡ﴾([1]).
وجملةُ (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) شرطيةٌ، وهي جواب الشرط المتقدّم في (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) أي: فمَن اتقى منكم التكذيبَ، وقوله (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) جواب الشرط الثاني (فَمَنِ اتَّقَى) أو خبرٌ لقوله (فَمَنِ اتَّقى) على أن (مَنْ) اسمٌ موصول.
والآيات في قوله (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) الدّلائِل، وهي تعمُّ الآيات القرآنية المعجزة، والآيات غير القرآنية، من المعجزات الأخرى؛ كحنينِ الجذع([2])، ونبع الماء مِن بينِ أصابعه صلى الله عليه وسلم([3]).
والاستكبارُ: الكِبر، والسين والتاء للمبالغة، فالذين تكبروا عن الآيات ولَم يؤمنوا بها (أُولَئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فأولئكَ خبرُ المبتدأ، وهو قوله (والَّذِينَ كَذَّبُواْ) وفي اقتران خبر (فَمَنِ اتَّقَى) بالفاء في (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) وعدم اقترانِ خبر (والَّذِينَ كَذَّبُواْ) في قوله (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) ـ ما يدلُّ على المبالغةِ في تحقيقِ الوعد في الجملة الأولى، حيث رتّب الخبر في الجملة الأولى (فمَنِ اتّقَى) على المبتدأ ترتبَ الجزاءِ على الشرط في اللّزوم وعدمِ الانفكاك.
بخلافه في الجملة الثانية (والَّذينَ كذَّبُوا) ممّا يدل على التسامحِ وانتظارِ العفو في حصولِ الوعيد.
(فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِ أُوْلَٰٓئِكَ يَنَالُهُمۡ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوۡنَهُمۡ قَالُوٓاْ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ)(37)
هذه خلاصةُ الحكم على مَن نسبُوا الفواحشَ إلى الله، وقالوا: إنَّ الله أمرَنا بها، وكذبوا بآياتِ الله، واستكبروا، فليس هناك أظلمُ منهم، أي ظلمُوا الله ظلمًا عظيمًا، فلا تسأل عمن أظلمُ منهم، وتقدم الكلام على مثل هذا التركيب في قوله: ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ﴾([4]) في البقرة.
وظلم هؤلاء ظُلمَانِ؛ افتروا على الله الكذب، ونسبُوا إليه ما لم يقله، مثل نسبة الأمر بالفواحشِ إلى الله، والظلمُ الآخر أنهم كَذَّبوا ما جاءهم عن الله في القرآن، وما جاءَهم به رسوله.
وحرف العطف (أو) في (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) بمعنى الواو؛ لأنهم فعلوا الأمرين، افتروا الكذب وكذبوا بآيات الله، أو على أن تكون (أوْ) بمعنى التخيير، الذي لا يمنع جمعهم بين الأمرين، والإشارة بـ(أُولَئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتابِ) إلى المشركين، الذين تقوَّلُوا على الله ما لم يقلْه، والذين كذَّبوا قوله، فأولئك سينالُهم نصيبهم وما قَدَّره الله لهم في الحياة من خير وشر، وما كتبَه لهم في الكتابِ، وهو اللوح المحفوظ، وهم أيضا مُتوعَّدون في القرآن بالعذاب الذي سينزلُ بهم، عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وأنّ إمهالهُم هو إلى أجلٍ مسمى.
فقوله(يَنَالُهُمْ) أي يصلُ إليهم ويَحِل بهم، و(نَصِيبُهُمْ) حظّهم، ومن في (مِنَ الْكِتَابِ) لابتداء الغاية، والكتاب يمكن حمله على المكتوب، ما كتبَه الله لهم وقدره عليهم في اللوح المحفوظ، ويمكن حمله على القرآن، وما جاء فيه من الوعيد الذي سينزل بهم (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) حتى إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم ينتزعونها انتزاعًا، ويضربون وجوههم وأدبارهم، فهذا بداية أشدّ أوقاتهم عليهم، وبداية محنتهم؛ لأن إمهالهم انتهى.
فـ(حتى) في قوله (حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا) فيها معنى الغاية، الذي يُرتب ما بعدها على ما قبلها، فما افتروه على الله من الكذب، وما تُوعدوا به من العذاب، جزاؤه وعقابه يترتب على ما فعلوه في الدنيا، ويبدأ من عند الموت، وقت مجيء الرسل من الملائكة تتوفاهم وتقبض أرواحهم، فـ(حتى) في الآية ابتدائية، وهي التي تدخل على الجملة، وليست الجارة التي تدخل على المفرد كما في (حتى مطلع الفجر)، والتَّوفِّي: تناول الشيء، وقبضه وافيًا.
وقوله (رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي: كلّ ملك من ملائكة الموت يَتَوفَّى واحدًا منهم، فهو من مقابلة الجمع بالجمع، التي تقتضي القسمة آحادًا، وجملة يَتَوَفَّوْنَ حالية، وفي تلك الحالة يُسألون سؤال تهكم وتعجيز؛ لتزداد حسرتهم، فيقال لهم (أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ) أخبرونا أين الآلهة والشياطين والكهنة، الذين كُنتُم تعبدونهم من دون الله؟ لمَ لا نراهُم يأتون لنجدتكم؟ ألا يَرَوْن ما أنتم فيه؟
(قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا) أجابُوا بأنّ الآلهة ضلّوا عنهم الطريق، فلم يعرفوا مكانهم، قالوا ذلك تعبيرًا عن خيبتهم وخسرانهم، حين أدركوا تخليَ آلهتهم عنهم؛ لذا لم يبقَ لهم إلّا أن أقرُّوا بكفرهم، وهو قوله (وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) اعترفُوا، وانتهتْ مكابرتُهم، فقد عاينوا العذاب، وليس الخبرُ كالعيان.
روى مالكٌ في الموطأ عَن نَافِعٍ عن عَبدِ اللهِ بنَ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)([5]).
[1]) الزمر: 71.
[2]) البخاري: 3583.
[3]) مسلم: 2279.
[4]) البقرة:114.
[5]) مالك في الموطأ: 570.