بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5717)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
طلقت زوجتي في عام 1998م، وذلك بإرادتي، وأرجعتها لذمتي، ثم طلقتها مرة أخرى، وذلك في عام 1999م، معلقًا يمين الطلاق على عدم استقبال زوجتي لشقيقتها في بيتي، وقد استقبلتْها، وأفتوني أن الطلاقَ واقعٌ لوقوع المعلق عليه، وأرجعتها لذمتي أيضًا، ثم – ولله الحمد – استمرت حياتنا إلى سنة 2018م، ونحن في شهر رمضان، وأثناء وجودي في فرنسا، طلقتها وأنا في حالة غضبٍ شديد، أفقدني القدرة على التحكم في تصرفاتي وأقوالي، وقد سألت أحد المشايخ، فقال إن الطلاق غير واقع، للإغلاق الذي كنت فيه، ثم في سنة 2019م ونحن في رمضان أيضًا، طلقتها مرة أخرى، وأنا في حالة من الغضب الشديد، وقد سألت عضوا بمجلس الإفتاء والبحوث الأوربي، عن الطلقتين اللتين في: 2018 و2019، وأفتى بعدم الوقوع، وذلك لوقوعهما في حالة من الغضب الشديد، والعصبية المفرطة، المصاحبة غالبًا للمدخنين، خصوصًا في حال الصيام، وقد أرسلتُ برسالة إلى مجلس البحوث والإفتاء الأوربي؛ للتأكد مما أفتى به الشيخ، وقد أقروا بما أفتى به، ثم قررتُ العودة إلى ليبيا، ولكن زوجتي رفضت الرجوع، بحجة استكمالِ الأولادِ الدراسة، فرجعتُ وحدي، على أمل أن يتغير رأيها، وتلتحقَ بي، ولكني تفاجأتُ بأنها قامتْ بما يسمى في فرنسا بالفصلِ الإداري، وهو ليس طلاقًا، ولكنه إجراءٌ خاص بالإقامة، وذلك للاستفادة من المعونات الاجتماعية التي تقدمها الدولة الفرنسية، فقمت على إثر ذلك باتخاذ قرار الذهاب إليها في فرنسا؛ خوفًا على بناتي وزوجتي، ولكنها رفضتْ رجوعي؛ خوفًا من فقدانِ المعونات الاجتماعية، واعتبرتْ هي وأهلُها أن الفتوى الصادرة عن مجلس الإفتاء الأوربي غيرُ ملزمةٍ لهم، بسببِ معاييرها الأوربية، فهل فتوى مجلس الإفتاء والبحوث الأوربي معتبرة؟ وإن كانت معتبرة، فهل يجوز لي السفر لفرنسا والمكوث فيها من أجل تربية بناتي، والحفاظ عليهنّ من التقاليد الغربية الفاسدة؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن مَن استفتى وسألَ مَن يثقُ في دينه وعلمه، ولم تكنِ الفتوى مقابلَ أجرة يعطيها للمفتي، وقد أجيبَ على حسَب سؤاله، فلا يطلبُ منه أن يسألَ غيره، ما دام واثقًا في دينِ مَن سأله وأمانتِه؛ لقول الله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: 7].
وأما السفرُ لبلاد الكفر، فالأصلُ فيه عدم جواز توطنِ المسلمِ ببلدٍ غير بلادِ الإسلام، والإقامةِ فيه، إلا إذا دعته حاجةٌ مؤقتةٌ؛ مِن دراسةٍ أو تجارةٍ عارضة، على أن يقطعَ المسلمُ إقامته بمجردِ انتهاء حاجته، وألَّا يلحقَ ضررٌ به أو بأولاده في تربيتهم على أخلاقِ الإسلام، وألّا يجدَ حرجًا في دينه، ومهانةً في تطبيقِ شريعته، وتنازلًا عن ثوابتِ الدين، أو تساهلًا في محرماتِ الشريعة أثناء إقامته في تلك البلاد، قال المازري رحمه الله: “وَأَمَّا إِن كَانَ سَفَرُهُ لِطَاعَةٍ، تَجِبُ عَلَى الْأَعْيَانِ أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، كَانَ سَفَرُهُ جَائِزاً. كَسَفَرِ الْمُسْلِمِ إِلَى أَرْضِ الْحَرْبِ يَفْتَكُّ مِنْهُ أَسِيرًا مُسْلِماً، لِكَوْنِ فِكَاكِ الْأَسْرَى قَدْ أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ.
وَأَمَّا إِن كَانَ سَفَرُهُ لِأَمْرٍ مُبَاحٍ فِي نَفْسِهِ، كَتِجَارَةٍ يَبْتَغِيهَا هُنَاكَ، فَإِنّهُ مَنْهِيٌّ عَن ذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ: هَلْ ذَلِكَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيُ كَرَاهَةٍ؟” [شرح التلقين: 2/932]، فمعنى كلام المازري رحمه الله؛ أنَّ محل الخلافِ في السفرِ العارضِ لا الإقامةِ الدائمة، وأنّه لو حصلَ للمسلم ضماناتٌ بعدم التعرضِ له في دينهِ ونفسِه وماله وعرضِه، بحيث يكونُ في منعةٍ بتلك البلاد؛ فلا حرجَ في الإقامة العارضة.
وهذا الحكمُ المتعلق بالإقامة بدولة الكفر، ليس خاصًّا بالرّجل، بل يعمُّ المرأة وأولادها أيضًا، فلا تحلُّ لهم الإقامة في بلاد الكفرِ من أجلِ الحصول على منحةٍ، أو التخلصِ من الزوج، أو الحصولِ على تسهيلاتٍ معيشيةٍ قد لا تتوفرُ لهم في بلادِ المسلمين، ولا لغيرِ ذلك مِن المشاكل الاجتماعية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ) [أبوداود: 2645].
وعدمُ رجوع الزوجةِ لبلاد المسلمين، لا يُسوِّغُ للزوجِ السفرَ والمكوثَ في بلاد الكفر، بحجةِ أنه يريدُ تربية أبنائه، فمهما فعلَ؛ فالقوانينُ الجائرةُ المخالفة للفطر السليمة، كما تفرضُ أحكامها الظالمةَ على أولاده في ذلكَ المجتمع، تفرضُها عليهِ هو أيضًا، فلا يجدُ منها انفكاكًا، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
حسن بن سالم الشريف
عبد الرحمن بن حسين قدوع
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
22//محرم//1446هـ
28//07//2024م