المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (364)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (364)
[سورة الأعراف: 38-39](قَالَ ٱدۡخُلُواْ فِيٓ أُمَمٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ فِي ٱلنَّارِۖ كُلَّمَا دَخَلَتۡ أُمَّةٞ لَّعَنَتۡ أُخۡتَهَاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعٗا قَالَتۡ أُخۡرَىٰهُمۡ لِأُولَىٰهُمۡ رَبَّنَا هَٰٓؤُلَآءِ أَضَلُّونَا فَـَٔاتِهِمۡ عَذَابٗا ضِعۡفٗا مِّنَ ٱلنَّارِۖ قَالَ لِكُلّٖ ضِعۡفٞ وَلَٰكِن لَّا تَعۡلَمُونَ وَقَالَتۡ أُولَىٰهُمۡ لِأُخۡرَىٰهُمۡ فَمَا كَانَ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلٖ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ)(38-39)
بعد ما ذكر الله تعالى ما حل بالمكذبين، وما ينزل بهم عند قبض أرواحهم، وهي بداية رحلة العذاب الطويل، ذَكَر نوعًا آخر من أنواع عذابهم، عندما يقال لهم في القيامة (ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ) أي: ادخلوا النار مع الكفرة أمثالكم، والقائل هو الله سبحانه، أو أحد الملائكة الموكل من الله بإبلاغهم وإدخالهم النار.
والأمم هم جميع أمم الرسل الذين استحقُّوا النار بما ارتكبوه من الكفر والإجرام في الدنيا، من أولها إلى آخرها، من الجن والإنس، فإنه يقال لكل أمة منها: ادخلوا النار مع أمم أمثالكم في الكفر قبلكم.
وقوله (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا) أي ما من أمّة تدخل النار وفيها أتباع ومتبوعون، إلّا يسبُّ الأتباع والمتبوعون بعضَهم بعضًا، وذلك في كلّ الأمم، يلعنُ بعضهم بعضًا.
فأُولَاهُم وهم الكبراء يلومون الأتباع في النار، يقولون لهم: إنكم باتباعكم إيانا أغوَيتُمونا، وأوهمتمونا أننا على حق، فزاد تمسّكنا بالباطل، فلو أن الأتباعَ من العامّة حين دُعُوا إلى الباطل من رؤسائهم نصحوهم أو أعرضوا عنهم، ولَم يقلدوهم في الضلال، لراجع الرؤساء أنفسهم، وتركوا ضلالَهم.
وكذلك أُخراهم وهم الأتباع يلومون مَن أضلّوهم من السادة والكبراء، يقولون لهم: لولا أنتم قدْتُمونا إلى الكفر لكنّا مؤمنين.
وبهذا المعنى يكون كلُّ واحدٍ منهم أَضلَّ صاحبه، فاستحقَّ اللوم منه.
لكن يتضاعف العذاب على السادة القادة في الكفر بسبب سبقهم في الإجرام وترأّسهم فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)([1]).
والمؤاخاة بينهم في قوله (لَعَنَتْ أُخْتَهَا) إمَّا في مطلق الكفر، بصفة عامة، أو في خصوص نوع الكفر الذي قلدتها فيه، فمن عَبدوا الأصنام يتلاعنون إلى أن يَصلوا إلى أعظمهم إجرامًا، الذي سَنَّ لهم عبادة الأصنام أول مرة، وكذلك من عَبدوا الجن، ومن عَبدوا الكواكب أو البشر أو البقر، فكلّ أهلِِ دين يَلعن بعضهم بعضًا؛ لأن كُلًّا منهم يُلقي باللوم على الآخر.
وإذا ادّاركوا فيها جميعًا وتتابعوا في الدخول، ولحق بعضهم بعضًا، وكانوا جميعا في النار على آخرهم، قالت أُخراهم منزلةً في الدنيا -وهم الأتباع- لأُولاهم منزلةً -وهم الرؤساء- لربها شاكية؛ فالقرآن يقص علينا في هذه الآيات شكواهم، فإنهم إذا دخلوا النار يقع بينهم التلاوم والتشاتم والعداء، يقع هذا التشاتم بين السادة في الكفر، أو فيما دونه من الانحراف والعصيان، ممن يسمّون اليوم النخب المترئسين في العداء للدين وأهله، وبين الأتباع من العامة المغرر بهم، الذين كانوا يقلدونهم ويقولون بقولهم، منخدعين بشعاراتهم، على غير بصيرة ولا معرفة بمخططات كبرائهم الكيدية.
يقول الأتباع وهم في النار شاكِين السادة والكبراء إلى ربهم ليوجِدوا لأنفسهم العذر بتحميل ذنوبهم على الكبراء، يقولون مشيرين إليهم: هؤلاء أضلونا، فزدهم عذابًا ضعفًا من النار، فيقول الله رَدّا عليهم (لِكُلٍّ منكم ضِعْفٌ) أي زيادة من العذاب بما يناسب جرمه وإثمه، وليس زيادة العذاب خاصة بالكبراء الذين ترأسوا في الضلالة ودَعَوا إليها؛ لأن أولئك أَسَّسوا، وهؤلاء مَكّنوا ووَطّدوا، وهم وإن اشتركوا في العذاب، فإن للكبراء زيادة فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)([2]).
واستحقاق الأتباع المقلدين لزيادة العذاب من وجهين:
من جهة أنهم زَينوا للمتبوعين سوء أعمالهم، فلم يَنهَوهم، ولَم يُناصحوهم، بل تابعوهم ومَكَّنوا لضلالهم وقَوَّوه، حتى تَراءت الضلالات في أعين الكُبراء الذين أسّسوا لها، كأنها حق، وصار الرؤوس والكبار ـ بسبب كثرة الأتباع ـ يَشعرون بنشوة ما هم عليه من الترأس في الانحراف.
ومن جهة أخرى؛ وهي أنهم باتباعهم مَن غرّروا بهم مُعرِضون عن الحق، مُتبِعون لأهوائهم، مقابل عَرَضٍ من الدنيا، وفُتات من حطامها، يُلقيه إليهم كبار المجرمين، فهم شركاء في الضلال، وإن كان للسادة زيادة عليهم، فلأنهم ضلُّوا وأضَلوا.
فالمتبوعون في أيامنا – سواء ممن يحكمون البلدان من الطغاة، أو ممن يسير في رِكابهم ومِن ورائهم الأتباع – نراهم يضعون أيْديهم في أيدي أعداء الدين، يوالونهم ويناصرونهم على المسلمين.
وهم يعلمون أنهم بذلك يبيعون بلدانهم بأبخسِ الأثمان، ويُمَكِّنون لأعدائهم من رقابِ المسلمين، في مشاريع نُسجت خيوطها في دهاليز مخابرات أعدائهم، مشاريعُ شعاراتُها الرحمة، وحقيقتها المكرُ الشديدُ والشرُّ الوبيل.
احتلالٌ مُبطَّن يُسام فيه ابنُ البلد سوء العذاب، يُدنسون كرامته في الرُّغام، ويُرهقونه بالطوابير والحرمان، يَلهث وراء لقمة العيش التي صارت حُلْمه؛ ليكون عبدًا ذليلًا، حارسًا لهم.
احتلالٌ يُنَصِّب فيه أعداءُ الدين على كراسِي حكم بلادِ المسلمين وعلى خزائنِ أموالهم، مَن يَأتمرون بأمرهم، ممن هم مسلوبُو الإرادة، رَهن الإشارة وطَوع البَنَان للمحتل من وراءِ حجاب، حتى لو دَخل أعداؤهم جحر ضبٍّ خربٍ لدخلوه معهم، صَدَّقوا عدوهم في تشويه أبناء بلدهم الرافضين للاحتلال، فظلموهم أشدَّ الظلم، ومَنَعوهم حقهم في مال الأمة، إلى أن ماتَ مَن ماتَ منهم جوعًا، وهم ينظرون إليهم، فاشتركوا مع عدوهم في قتل المسلمين، وما يجري في غزة هذه الأيام من القتل والتجويع والحصار مثالٌ لذلك، فضحَ حكام العربِ والمسلمين وعملاءَهم، فإلى الله المشتكى، وإليه المرجع والمآب.
وعندما قال الله لهم: لكلٍّ ضعفٌ وزيادة من العذاب، قالت أولاهم -وهم المتبوعون والرؤساء- لأخراهم وهم الأتباع: إذا علمتم هذا الذي حكم الله به علينا (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ) لستم أحسن منا، بل أنتم مثلنا، كَذَّبتم ولم تَسمعوا إلى الرسل كما كَذَّبنا، فلا تلومونا ولومُوا أنفسكم، فقال لهم اللهُ جميعًا (فَذُوقُواْ الْعَذابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ) ما تتجرعونه من العذاب هو بسببِ كسبكم، وما عَمِلَته أيديكم.
فقوله (فِي أُمَمٍ) في للظرفية بمعنى مع، و(قَدْ خَلَتْ) قد مَضَت، والظرف (مِن قَبْلِكُم) في محلّ الحال، أي في أمم كائنين من قبلكم، فلا يفلت منكم أحدٌ، وفي قوله (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) دليل على أن الجنّ مُكلَّفون، يُعذَّبون ويُثابون.
و(أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أُخرى وأُولى على وزن فُعلى، أُنثى أَفعل التفضيل، والأُولى هي الأعلى منزلة في الدنيا، وهم الرؤساء المتبوعون، والأُخرى الأدنى منزلة، وهم الأتباع المقلّدون، ويحتمل أن يكون (أولاهم) مؤنث الأول، و(أخراهم) مؤنث الآخِر، بكسر الخاء، أي أولهم دخولا وآخرهم دخولاً.
واللام في (لأُولاهُم) للتعليل، والضِّعف في اللغة الزيادة على الشيء بمُساويه، ولا يقتصر على مُساويه مرة واحدة، فالضِّعف يكون أمثالًا، لكن العرف خصّ الضِّعف بالزيادة على الشيء بما يساويه مرةً واحدةً، فمن وصَّى لأحدٍ بضِعف ما لولدهِ أخذَ مثل نصيب ولده مرتينِ لا أكثر، والإشارة في (رَبَّنَا هَؤُلَآءِ) إلى السادةِ الذين سَنُّوا لهم الضلال.
[1]) مسلم: 2674.
[2]) مسلم: 2674.