طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (371)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (371)

[سورة الأعراف: 57-58]

(وَهُوَ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ)(57)

الذي له الخلق والأمر، والذي رحمتُه قريب من المحسنين، له رحمةٌ أخرى عامة، يُنزل بها الماء على عباده، فيغيثهم، وجعل لها أسبابًا، فقال (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أنَّ تكوينَ الرياح المسخَّرة التي يرسلها الله، يبدأ بانتشارها وتكاثرها في الهواء القريب من الأرض، فتكون بُشرى بإنزال الغيث، حيث يتجمعُ بها بخارُ الماء من على سطح البحار والأماكن الرطبة، ثم ترتفع الرياح بالبخار المتجمع إلى الهواء العُلوي، حيث يصادف الهواءَ البارد، فيتكثفُ البخار، ويُكَوِّن سُحبًا حاملةً للماء، وتسوقُها الرياح لينحازَ بعضها إلى بعض، وتتراكم، حتى إذا ما صارت سحبًا كبيرة، وثَقُل الهواء بحملها، انهمر ماؤها بعد أن يكون الله قد ساقه بمشيئته وإرادته إلى حيثُ ما يشاء، يُحيي به بلدًا ميتًا مجدبًا، فيرحم به من يشاء من عباده، كما قال تعالى: ﴿‌فَیُصِیبُ ‌بِهِ مَن یَشَاۤءُ وَیَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن یَشَاۤءُ﴾([1]).

فإرسال الرياح: إثارتها وإنشاؤها، ولا يكون إلا بمشيئة الله وقدرته حيثُ أراد بعد أن يهيئ له أسبابه، والرياح: جمع ريح، وأكثر استعمال القرآن الرياحَ بالجمع في الرحمة، والريح بالمفرد في ريح العذاب، قال تعالى: ﴿إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِیحࣰا ‌صَرۡصَرࣰا فِی یَوۡمِ نَحۡسࣲ مُّسۡتَمِرࣲّ﴾([2]).

ووصفت الرياح بكونها (بُشْرًا) في قراءة و(نُشُرًا) في قراءة أخرى فهي مبشرة بالغيث الذي يليها وتسبقه، ونشرًا منتشرة متكاثرة، متعددة جهاتِ هبوبِها، وناشرة للسُّحُب التي تحمل الماء، والبَينِيَّة في قوله (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) من بين يدي الشيءِ، وهو ما يكون قُدّامه، وهو هنا بمعنى يقدُمه قريبًا منه، ويقابِلُه الخَلف، قال تعالى: ﴿یَعۡلَمُ ‌مَا ‌بَیۡنَ ‌أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ﴾([3])، والرحمة: المطر، فهو الذي يرسل الرياح سابقةً ومتقدمةً ما يأتي بعدَها، مِن تنزل رحمة الله بالغيث.

و(أَقَلَّتْ) أي: حمَلَت الرياح (سَحَابًا ثِقَالًا) أي متثاقلة تسير ببطء؛ من ثِقلها بماء المطر، فسَحَابًا: اسم جمعٍ لسحابة، كتمر وتمرة، يؤنث ويذكر، ويُفرد وصفه ويُجمع، وقد رُوعي الجمع في وصفه ثِقَالًا، ورُوعي الإفراد في عود الضمير عليه مفردًا في قوله: سُقْنَاهُ.

و(لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي ساقه الله بواسطة الرياح التي جعلها مبشرة بالغيث ومقدّمة له، لبلد (مَيِّتٍ) مجدب، لا زرع فيه ولا ضرع، فاللام في (لِبَلَدٍ) للتبليغ، أي أوصلناه وبَلَغْنَا به بلدًا مجدِبًا.

و(حَتَّى) في قوله (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ) لابتداء الغاية، وقوله (فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ) هو الغاية من إرسال الرياح التي دلت عليها (حَتَّى) وهي إنزال الماء، والضمير في قوله (بِهِ) يصح رجوعه إلى البلد، فتكون به للظرفية، بمعنى فيه، ويصح رجوعه إلى الماء، فتكون الباء للسببية، أي: فأنزلنا بسببه.

والاستغراق المستفاد من قوله (كُلِّ الثَّمَرَاتِ) هو لمجرد الكثرة، والمعنى: أخرج الله بالماء النازل من السماء كثيرًا من أنواع الثمرات، فـ(مِنْ) في (مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) للتبعيض، فالماء أخرج الله به الثمرات الكثيرة، وكذلك أحيَا به الأرض الميتة.

و(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى) أي مثل إحياء الأرض الميتة وإخراج النبات منها، نحيي الموتى، ونخرجهم من القبور إلى البعث، و(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لأجل أن يكون ما ترونه من إحياء الأرض الميتة بالماء دليلًا، يذكركُم بقدرة الله على البعث.

(وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذۡنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ)(58)

هذا كالذي قبله من ضرب الأمثال، فبعد أن ضربَ الله المَثَل للمكذبين بالبعثِ من القبور، بإحياء الأرضِ بإنزالِ الماء عليها، ضربَ لهم مثلًا آخرَ لمن يتدبر الآيات وينتفع بها؛ بالأرض الطيبة والتربة الصالحة، التي يحييها الله بالماء، وتُخرجُ نباتها طيبًا وافرًا نافعًا للناس؛ ولمن لم يلتفت إلى الآيات، وأعرضَ عنها، ولم ينتفع بها؛ بالتربة الخبيثةِ من الأرض، التي لا تُنبت شيئًا أو لا تُنبت إلّا قليلًا، عديمَ النفع، نكدًا ضارًّا.

وهو معنى ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادِبُ، أمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأَصابَتْ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ)([4]) إلى آخر الحديث، (وَالْبَلَدُ) أي الأرض، و(الطَّيِّبُ) الذي تربته كريمة مِعطاءة، وقوله (بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي نباته يَنبت طيبًا وافرًا نافعًا مباركًا، وحُسنهُ وبركتهُ من عند ربه، فهو الذي باركه.

(وَالَّذِي خَبُثَ) أي: ونبات ما خبُث من الأرض، وهي السبِخة، وذاتُ الحجارة، لا ينبتُ نباتها إلا نكدًا، فلا ينبتُ فيها إلا ما هو عديمُ النفع أو قليله، لا بركةَ فيه، وتصريف الآيات: تكرير الحجج والأدلة، وإعادتها بوجوه متعددة (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي مثلَ هذا التصريف والتنويع للأدلة بضرب الأمثال لإحياء الموتى وإحياء الأرض، نُصرّف وننوّع الآيات والدلائل والبراهين، لقوم تنفعهم الآيات فيؤمنون بها، ويؤدون حقَّها بالشكر.

[1])    النور:43.

[2])    القمر:19.

[3])    البقرة:255.

[4])    البخاري:79، ومسلم:2282.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق