طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (373)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (373)

[سورة الأعراف: 65-69]

(وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ قَالَ يَٰقَوۡمِ لَيۡسَ بِي سَفَاهَةٞ وَلَٰكِنِّي رَسُولٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمۡ نَاصِحٌ أَمِينٌ)(65-68)

جملة (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) عطفٌ على قوله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) من عطف القصة على القصة، أي أرسلنا نوحاً إلى قومه وأرسلنا هودًا أخا عاد إلى قومه، وعادٌ أبو القبيلة، وهم قوم هود، من العرب العاربة، سكنت الجزيرة العربية.

و(أَخَاهُمْ) يعني من قرابتهم نسبًا، وليس غريبًا عنهم، كما تقول لشخص: يا أخَا العرب، تَنسبه للعرب، أو أخاهم بمعنى صاحبهم، وجاء في الآية نسبة هود عليه السلام إلى قبيلته عاد (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) ولم يُنسب نوح عليه السلام إلى قبيلته، وإنما قال (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ) قالوا: لأن القبائل لم تظهر إلا بعد الطوفان، ولم تكن قبله في عهد نوح.

و(هُودًا) عطف بيان، أو بدلٌ من أخاهم، وقوله (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هذه دعوة التوحيد، دعوة جميع الأنبياء، وتقدّم تفسير هذا النداء في قصة نوح عليه السلام، وأُتي في قصة نوح عليه السلام بفاء الربط بين الجملتين في قوله (فَقَالَ يَا قَوْمِ) لأنها أول قصة ابتدئ بها، اقتضت عقب الإخبار بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم عطف ما قاله لقومه، ولما ذُكر بعده إرسال هود إلى قومه أثار ذلك سؤالًا: هل قال هود لهم مثل ما قال نوح؟ فجاء الجواب (قَالَ يَا قَوْمِ) وهو وجه فصل جملة (قَالَ يَا قَوْمِ) عما قبلها دون حرف العطف، كما في قصة نوح.

والاستفهام في (أَفَلَا تَتَّقُونَ) إنكاري، تحذيرٌ لهم من العصيان والإعراض، فيصيبهم ما أصاب من قبلهم، وهم قوم نوح، و(الْمَلَأ) في قوله (قَالَ الْمَلَأُ) الجماعة المقدمة في قومها، وقد تقدم تفسيره قريبًا([1]).

و(الَّذِينَ كَفَرُواْ) يصح أن يكون وصفًا كاشفًا للملأ لبيان الواقع؛ لتقبيح حالهم، والتشنيع بهم بوصفهم بالكفر، وقوم نوح ـ وإن لم يُوصفوا في القصة السابقة بهذا الوصف وهو الكفر ـ فقد وُصفوا به في سورة هود، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌نُوحًا ‌إِلَىٰ قَوۡمِهِۦۤ إِنِّی لَكُمۡ نَذِیرࣱ مُّبِینٌ﴾([2])، إلى أن قال: ﴿فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرࣰا مِّثۡلَنَا﴾([3])، فوصف الفريقين بالكفر ثابت ولكن ذكره في كل مرة يختلف باختلاف السياق، وما يتقدمُه مِن غلظةٍ في الخطاب، وشدةٍ في العناد.

والسَّفاهة: الحماقة وضعف العقل، وقالوا (إنا نراك في سفاهة) ولم يقولوا: نراكَ سفيهًا؛ مبالغة في وصفه بالسفاهة، حتى كأنها محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف، وحاشَاه، وهذا من شدة بغيهم الذي اقتضى هنا وصْفَهم بالكفر، والظن في قولهم (لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) معناه اليقين، أي نعتقد إنك من الكاذبين كما في قوله تعالى: ﴿فَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُم ‌مُّوَاقِعُوهَا﴾([4])، وقد تشابه جوابهم في التكذيب بجواب من قبلهم وإنِ اختلفت عباراتهم، كما قال تعالى: ﴿‌تَشَٰبَهَتۡ قُلُوبُهُمۡ﴾([5])، وكأن بعضهم أوصى بعضًا بالتكذيب، قال تعالى: ﴿‌أَتَوَاصَوۡا۟ ‌بِهِ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ طَاغُونَ﴾([6]).

وما زادَ هودًا صلى الله عليه وسلم هذا التعنتُ في الرد عليه إلا تلطفًا بهم، وحرصًا عليهم، فقال (يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ) كما زعمتم، فلم يَسُبَّهم ولم يشتُمهم، وإنما اكتفى بنفي السفاهة عن نفسه؛ لكذبهم في وصفه بها، فقال: ليس بي سفاهة، وهذا خُلُق الأنبياء، وهم الأسوة والقدوة، فعلى كل من نذر نفسه للدعوة إلى الله أن يتعلمَه، ويعمل به.

وتقدم الكلام على قوله (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) في نظير هذه الآية آنفا في قصة نوح صلى الله عليه وسلم مع قومه([7]).

وقال هنا (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) على خلاف ما تقدم في قول نوح صلى الله عليه وسلم (وأَنصَحُ لَكُمْ) لأنّ هودًا لما رُميَ بالسفاهةِ والكذب، وصفَه الله بما يرفع ذلك عنه على أبلغ وجه، فأثبت له النصحَ بصيغة اسم الفاعل (ناصِح) الدالّ على التجدّد، مع الثبات والدوام، ووصفه بالأمانة المنافية للكذب، فقال: ناصحٌ فيما أدعوكم إليه، أمينٌ على ما أقول، لا أكذبُ عليكم، فأفاد التركيب أنّ وصف كلامِه لهم بالنصح سجيةٌ له، والأمانة خلقه، والسفَه ينافي ذلك، ومِن أخصِّ أوصاف الأمانة الصدق والعدالة، وتجنب كلّ ما يخل بالمروءة.

(أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ)(69)

تقدم قريبًا الكلام في قوله (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ …)([8]).

وقوله (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ) عطفٌ على (أَوَعَجِبْتُمْ) فبعد أن أنكر الله عليهم تعجبهم من أن يُرسل إليهم رسولًا منهم، ذَكَّرهم بنعمه عليهم؛ لأن التذكير بالنعم يُلَيِّنُ القلوب، ويحمل العاصي على الإقلاع، و(إذْ) في (إِذْ جَعَلَكُمْ) ظرفٌ بمعنى الوقت، مفعولُ اذْكُرُواْ، أي: اذكروا وقت أنْ جعلكم وأوجدكم في الأرض بعد قوم نوح (خُلَفَآءَ) خَلَفْتُمُوهم في تعمير الأرض، فكانوا أولَ أمة على وجه الأرض بعد الطوفان، ولذا قال (خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) وهذه النعمة الأولى على قوم هود، نعمة الاستخلاف.

والثانية قوله (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصطَةً) كُتبت بَصْطَةً في هذا الموضع بالصاد، وكُتبت في مواضع أخرى بالسين، وهما بمعنى واحِد، ومعناها الوفرة في القامة، والاكتمالُ في العقل، والتوسع في الملك، والسيطرة على مقاليد الأمور.

فقد أنعمَ الله عليهم بكل هذه الصفات، فاغترُّوا واستكبروا، حتى قالوا: ﴿‌مَنۡ ‌أَشَدُّ ‌مِنَّا قُوَّةً﴾([9])، وقَرَّعهم نبيهم، فقال لهم: ﴿أَتَبۡنُونَ ‌بِكُلِّ ‌رِیعٍ ءَایَةࣰ تَعۡبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ وَإِذَا بَطَشۡتُم بَطَشۡتُمۡ جَبَّارِینَ﴾([10])؛ تتخذون أبنية ضخمة، وقصورًا وحصونًا محكمة، كأنكم تخْلُدُون ولا تموتون، وكانوا أصحاب حرب وبأس، وإليهم تُنسبُ الدروعُ والسيوفُ العاديّةُ الضخمة القوية.

ثم ذَكَّرهم بعد هذه النعم الخاصة، بنعم الله عليهم عامة، فقال (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أي إن فعلتم ذلك، وذكرتم نعم الله عليكم، حريٌّ بكم أن تؤمنوا فتُفلحوا.

فالْآلَاءُ: النِّعَم، جمع إِلًى، كعِنَب وأَعْناب، وكإِنًى وآناء بمعنى الوقت، قال تعالى: ﴿‌غَیۡرَ ‌نَٰظِرِینَ إِنَىٰهُ﴾([11])، وقال: ﴿‌وَمِنۡ ‌ءَانَاۤئِ ٱلَّیۡلِ﴾([12])، وآلاء اللهِ جمعٌ مُضاف، يعُمُّ جميع النِّعَم.

 

[1])         ص: 153.

[2])    هود:25.

[3])    هود:27.

[4])    الكهف:53.

[5])    البقرة:118.

[6])    الذاريات:53.

[7])         ص: 154.

[8])         ص: 154.

[9])    فصلت: 15.

[10])  الشعراء: 128 ـ 130.

[11])  الأحزاب: 53.

[12])  طه: 130.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق