طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (374)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (374)

[سورة الأعراف: 70-72]

(قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِنَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَحۡدَهُۥ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ قَالَ قَدۡ وَقَعَ عَلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ رِجۡسٞ وَغَضَبٌۖ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيٓ أَسۡمَآءٖ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٖۚ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَقَطَعۡنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۖ وَمَا كَانُواْ مُؤۡمِنِينَ)(70-72)

عندما ذكر لهم هود صلى الله عليه وسلم نصحه لهم، وذَكَّرهم بنعم الله عليهم، التي تستوجب الشكر والإيمان، رَدُّوا عليه منكرين مستكبرين (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) وكان إنكارهم هذه المرة عليه أخف من إنكارهم الأول في قولهم (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) ولعل هذا هو أثر ترفقه بهم في رده على تسفيههم له فالاستفهام في (أَجِئْتَنَا) إنكاري.

ومعنى قولهم (أَجِئْتَنَا) تعمدتَنا وقصدتَ الإتيان إلينا (لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) أي جئتَنا تطلب منا أن نعبد الله موحدين له في العبادة وَنَذَرَ ونترك مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا، وقالوا (وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا) دون (ونذر الأصنام)؛ ليُعَرِّضوا بتسفيه رأيه، من جهة أن ما يدعوهم إليه يخالف ما كان يعبده آباؤهم، بما فيهم آباؤه، وإتباعهم أمر مقدس لا يجرؤ أحد على مخالفته في زعمهم، وإتيانهم بـ(كَانَ) في قولهم (مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا) ليفيدَ أن عبادتهم الأصنام عريقةٌ ضاربةٌ في القدم.

(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) ثم فرَّعوا عن إنكارهم عليه دعوتهم إلى عبادة الله، واستنادهم في الإنكار على مخالفة آبائهم؛ فرعوا عليه تحديَهم له بقولهم (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا).

والأمر في قوله (فَأْتِنَا) للتعجيل، أي عجل لنا العذاب إنْ كنت من الصادقين، ووجهوا الطلب إليه في الخطاب (فَأْتِنَا) ولم يطلبوه من الله؛ ليُظهروا عجزه، وما وقعتْ عليه (مَا) في قولهم (بِمَا تَعِدُنَا) هو العذابُ المفهومُ من السياق في قوله لهم (أَفَلَا تَتَّقُونَ) وفِي جعلهم خلفاء لمن أهلكهم الله في قوله (وَٱذكُرُوٓاْ إِذ جَعَلَكُم خُلَفَآءَ مِن بَعدِ قَومِ نُوح).

ومعنى (تَعِدُنَا) تُوعِدُنَا وتتوعَّدُنا، فإنه لم يعِدهم خيرًا، وإنما تَوَعّدَهم عَذابًا، وقولهم (إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) زيادة تحدٍّ لنبيهم وتمرد في تعجيزه، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتَ مِن الصادقين فأتِنا بالعذاب.

وقد أعرض ابتداءً في جوابِه عن تكذيبهم، فبادرهم بتذكيرهم بما هو أفيدُ لهم -لو كانوا يعقلون!- في قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) ثم نبههم إلى أن جرأتهم بطلب العذاب في قولهم (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) ترتبَ عليها استحقاقُهم لعذاب الله، ولمقتضياتِ غضبه، فقال: (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي حقَّ وثبَت عليكم العذابُ؛ لأني أدعوكم إلى التوحيد وعبادة الله، الذي خلقكم وخلق آبَاءكُم، وتردّون ذلك بجدال قائم على لا شيء، على مجرّد أسماءٍ اخترعتموها، وأطلقتموها على أصنام سميتموها آلهة تبعًا لآبائكم، دون بصيرة ولا برهان، لا منكم ولا منهم، فليس لكم فيما ذهبتم إليه من عبادة الأصنام حجّة من الله ولا سلطان، وإنما هي تسمياتٌ مرسلةٌ ومخترعة من عند أنفسكم.

وذُكر وقوع العذاب بهم بالماضي (قَدْ وَقَعَ) مقرونًا بحرف التحقيق قد، وهو لم يقعْ بعد؛ وذلك لتحقق وقوعه، حتى كأنه وقع بالفعل.

فـ(وَقَعَ) حَقَّ وَثَبَتَ، و(رِجْسٌ) عذابٌ، و(غَضَبٌ) نقمةٌ تستوجبُ نزول العذاب بهم.

وتوجه الذمّ في جدالهم للتسميةِ الخالية عن المعنى، في قوله (سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) لأن الأصنام خالية من المعنى الذي ينسبونه إليها في جدالهم، فلا تملك شيئا، ولا تسمع، ولا تبصر.

والاستفهام في قوله (أَتُجَادِلُونَنِي) إنكاريٌّ توبيخيٌّ، وتجادلونني من المجادلة، وهي المحاجة، وضمير سميتموها راجع لـ(أسماء) والسلطان: البرهان والدليل؛ لأنه يُرسَل على الخصم فيغلِبه.

وبعد تخويفهم، وتذكيرهم، وتسفيه كلامهم، بأنه عارٍ عن الحجة، جاء الرد على تحديهم بطلب العذاب عاجلًا، فقال لهم نبيهم ـ تخويفًا لهم ـ واثقًا من وعد ربه: أقبلُ التحدّي، انتظرُوا العذاب، فإني معكم من المنتظرين، أي وأنا معكم للعذاب من المنتظرين؛ لأشهد عليكم بالتكذيب واستحقاقكم له.

وستعلمون حينها مَن يأتيه عذابٌ يخزيه، ويَحُِلّ عليه عذابٌ مقيم، وكما هو واثق بوعد ربه كذلك واثق عند نزول العذاب بهم أنَّ الله ينجيه ويخرجه من العذاب، ولذا قال: (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا) أي حين أتى وقت العذاب، أنجى الله نبيه هودًا عليه السلام، وأنجى الذين آمنوا معه، كما أنجى مَن آمن مع نوح عليه السلام من قبلُ.

والفاء في قوله: (فَانتَظِرُواْ) فاء الفصيحة، أي أما وقد تحديتم، وطلبتم العذاب، ولم ينفع معكم تذكير ولا نصح، فانتظروا العذاب.

والباء في (بِرَحْمَةٍ مِّنَّا) للمصاحبة، أي كانوا مصحوبين في نجاتهم برحمة منَّا، وفِي إسناد الرحمة إلى ضمير الجلالة (مِّنَّا) ما يشعر أنهم في حماية مَن لا يُضام، وكَلإ مَن عينه لا تنام.

(وقَطَعنا) من القطع وهو الاستئصال، ودابر الشيء: آخره من الدُّبُر، وهو الوراء، أي قُطعوا واستؤصلوا على آخرهم، ولم يبق لهم أثر، وقال: دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ، ولم يقل: دابرَهم؛ ليدل على أن هذا مصير المكذبين للآيات، والمشركين مع الله غيره، وليس هذا مصير هؤلاء وحدهم؛ بل مصير كل مكذب، لأن تعليق الحكم بالمشتقِّ – وهو التكذيبُ – يؤذِن بعلِّية ما منه الاشتقاق للعذاب.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق