طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (376)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (376)

[سورة الأعراف: 75-79]

(قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لِلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِمَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُمۡ أَتَعۡلَمُونَ أَنَّ صَٰلِحٗا مُّرۡسَلٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قَالُوٓاْ إِنَّا بِمَآ أُرۡسِلَ بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا بِٱلَّذِيٓ ءَامَنتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ ‌فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوۡاْ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ ٱئۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ)(75-79)

الْمَلَأُ: وجهاء القوم، ورؤساء العشائر، الذين هم في العادة أسبق إلى الضلالة من ضعاف القوم، إلا مَن رحم ربك، وذلك لما يعتري السادةَ من الخوف على فقد وَجاهتهم، ولما يصيبهم من الحسد للنبي المرسَل وللصالحين والمصلِحين في كلِّ الأوقاتِ وفي كل الأممِ، ويرون أن المصلحين يُفقدُونَهم الزعامة، واستعبادَ الناس، الذين سيتحولون من العبودية لهم إلى عبادة الله وحده، وطاعةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان الكُبراء لبعدِهم في الضلال، يجعلون سبْق المستضعفين للدين الجديد علامةً على صواب ما هم عليه، وخطأ من خالفوهم، كما قال تعالى عن مشركي مكة: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَوۡ كَانَ خَیۡرࣰا ‌مَّا ‌سَبَقُونَاۤ إِلَیۡهِۚ وَإِذۡ لَمۡ یَهۡتَدُوا۟ بِهِۦ فَسَیَقُولُونَ هَٰذَاۤ إِفۡكࣱ قَدِیمࣱ﴾([1])، وكما قال قوم نوح لنبيهم: ﴿وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِینَ هُمۡ ‌أَرَاذِلُنَا بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ﴾([2])، والضمير في قوله (مِنْهُمْ) يعود إلى ثمود قوم نبي الله صالح.

وذكرتِ الآية أن المستكبرين من قوم صالح عليه السلام لم يكتفوا بتكذيب نبيهم، بل انتقلوا إلى تشكيك أصحابه الذين آمنوا به في إيمانهم؛ لينفضَّ الناس عنه، فقالوا لهم (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ) ليُكثروا بذلك سوادَ الكفر، ويحاصرُوا دعوة الحق، حتى تضعف، ويَتم القضاء عليها، بسبب القِلّة والغُرْبة، والضَعْفِ الذي يصيب أهلها، ولذلك فإن نصرةَ أهل الحق، وتكثيرَ سواد أهله، بالحضور معهم في تجمعاتهم ومجالسهم، أو الدفاع عنهم بالكلمة والحجة، واجبٌ على الناسِ عامةً، كلُّ أحد منهم مكلَّفٌ بما يَقدِر عليه.

وكان واجبًا؛ لأنه الوسيلة للتمكين للحق وأهله وانتشاره، وتثبيتِ أركانه، وما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب.

والاستفهام في قولهم (أَتَعْلَمُونَ) للتشكيك والتهكم بالمستضعفين، فأجابهم المستضعفون جواب الواثق بإيمانه، المطمئنة نفسه للحق الذي هو عليه، ولذا لم يكتفوا في جوابهم بنَعَم مرسلٌ من ربه، بل فَخَّموا لهم أمر الرسالة، ونَوَّهوا بشأنها، وجاهروا بإيمانهم بها؛ ليُغيظُوهم، ويناصِروا رسولَهم، فقالوا (إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي: إنَّ صِدق الرسالة مفروغٌ منه، وعليكم أن تؤمنوا كما آمنَّا.

وقول الكفرة (إِنَّا بِالَّذِي ءَامَنتُم بِهِ كَافِرُونَ) هو جواب المستكبرين بأسلوبِ ما يجري الْيَوْمَ في الصراع بين الحق والباطل، لدعم كل طرفٍ بمَن يناصره؛ للتأثير على الطرَفِ الآخر وإضعافه، ولذا استعمل المستكبرون الطريقة نفسَها في الردِّ على المستضعفين، فلم يكتفوا في الرد عليهم بأنهم يخالفونهم، أو أنهم باقون على كفرهم، بل استعملوا في الإخبار عن كفرهم اسم الموصول (إِنَّا بِالَّذِي ءَامَنتُم بِهِ كَافِرُونَ) الدال على عموم كفرهم بكل ما جاء به الرسول، وليستفاد منه ما تدل عليه الجملة الاسمية من الثباتِ على كفرهم بالدِّين، الذي آمنَ به المستضعفون، ودَوامِهِم عليه.

والعَقرُ في قوله (فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ) هو القَطْع، كانوا إذا أرادوا نحرَ البعير قطعوا قائمة من قوائمه ليحبِسُوه.

أخبر الله عنهم في هذه الآية أنهم عصَوا واستكبَروا، وتعالَوا على الله في أمر الإيمان بصفةٍ عامة، وفي أمر الناقة في قوله: ﴿‌وَلَا ‌تَمَسُّوهَا بِسُوۤءࣲ﴾([3]) بصفة خاصّة، ومِن عُتوّهم واستكبارهم تحدّيهم لقدرة الله، فقالوا (يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) ائْتِنَا بما تتوعدنا به من العذاب، وهذا غاية الجرْأة على الله، والاغترار بعدم المبالاةِ في طلب الهلاك، قال تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا ‌یَسۡتَعۡجِلُونَ﴾([4])، ظنوا لجهلهم بصفاتِ الله وكمالاته أن الله يَعْجَلُ لعجلَتهم، ويُنزل عذابه بمَن يخالفه على الفور، ونسُوا أنّ لله تعالى سُننًا وحِكَمًا في الإمهال، وفي وقت نزول العذاب، وكان إمهال الله لهم معلقًا بعَقرِ الناقة، فلما عقَروها قال لهم: ﴿تَمَتَّعُوا۟ فِی دَارِكُمۡ ‌ثَلَٰثَةَ ‌أَیَّامࣲۖ ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَیۡرُ مَكۡذُوبࣲ﴾([5]).

والرَّجْفَةُ في قوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الاضطراب والرعشة كالزلزلة، وكان ذلك صعقًا، صَحِبته صيحةُ رعبٍ وهلَع، قال تعالى: ﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ‌ٱلصَّیۡحَةُ ‌بِٱلۡحَقِّ﴾([6])، وقوله (جَاثِمِينَ) من الجُثُوم، وهو الانكبابُ على الوجه، مع انثناءِ الأرجلِ والركب، وجدوا أنفسهم صباح اليوم الرابع، بعد أن قال لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، جميعًا جاثمين على هذه الهيئة الذميمة، لا حراك لهم: ﴿فَمَا ٱسۡتَطَٰعُوا۟ ‌مِن ‌قِیَامࣲ وَمَا كَانُوا۟ مُنتَصِرِینَ﴾([7])، وقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) يدل على أنهم أُخذوا جميعًا، ولم يُستثنَ منهم أحدٌ، إلا مَن آمنوا فأنجاهُم الله، وأخرجهم من القرية الظالم أهلُها قبل الرجفة.

وفي الآية دليل على أن الناس إذا سكتوا على الظلم، ورضُوا به، أو تسترُوا على الظالم، أو آزرُوه، عَمَّهم الله بالعذاب جميعًا، فالذي عقرَ الناقة رجلٌ واحدٌ من ثمود وهو أشقاهم، قال تعالى: ﴿كَذَّبَتۡ ثَمُودُ بِطَغۡوَىٰهَاۤ ‌إِذِ ‌ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا﴾([8])، أي بسبب طغيانِها انبعثَ أشقى رجلٍ فيهم، وعَقرَ الناقة، وقال تعالى: ﴿فَنَادَوۡا۟ صَاحِبَهُمۡ ‌فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ﴾([9])، فالذي عقرَ واحد، لكن العقر نُسبَ إليهم جميعًا، فقال: ﴿‌فَعَقَرُوهَا﴾([10])؛ لأنهم كانوا راضين عن جريمتِه، فعُدُّوا مشاركين له في عقرها، وأُخذوا معه بالعذابِ.

وقوله (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي رجع نبيهم إليهم بعد أن أبصرهم جاثمين وقد أخذهم العذاب، وقال لهم (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ) وهذا يمكن أن يكون قد قاله لهم حين أشرفوا على الهلاك، قبل أن يهْلِكوا بالفعل يُقرّعُهم ويوبخهم، ويحتمل أن يكون قال ذلك بعد هلاكهم لأجلِ اعتبار مَن بعدهم بمصرْعهم، كما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جِيف المشركين، قبل أن تُلقى في قليب بدر، فناداهم بأسمائهم، وقال: (أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا)([11]).

أو لعل صالحًا صلى الله عليه وسلم قاله على سبيل التحسُّر؛ لأنهم لم يؤمنوا، وكان يحبّ إيمانهم، كما قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿لَعَلَّكَ ‌بَٰخِعࣱ ‌نَّفۡسَكَ أَلَّا یَكُونُوا۟ مُؤۡمِنِینَ﴾([12])، وقوله (وَلَكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي ولكن لتماديكم في العناد، لا تُحبون من يُريد بكم الخيرَ والنصح، ولعداوتكم للناصحين حلّ بكم ما أنتم عليه من العذاب.

 

[1])    الأحقاف:11.

[2])    هود:27.

[3])    الشعراء:156.

[4])    الصافات:176.

[5])    هود:65.

[6])    المؤمنون:41.

[7])    الذاريات:45.

[8])    الشمس:12.

[9])    القمر:29.

[10])  الشمس:14.

[11])  مسلم:2874.

[12])  الشعراء:3.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق