المنتخب من صحيح التفسير – البقرة 49
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
– الحلقة (49).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
جاءت هذهِ الآيةُ عقبَ التقريعِ الشديدِ للّذينَ اعتدَوا وعصَوا، وقتلُوا الأنبياءَ مِن بني إسرائيل، لتدلَّ على أنّهم كغيرِهم مِن أهلِ الدياناتِ الأخرَى ليسُوا كلّهم سواء، فمنهم المؤمنونَ والصالحونَ، كالنقباءِ الّذينَ اختارَهم موسى عليه السلام للمناجاةِ، ومثل مَن بقيَ في أعقابِهم بعد بعثةِ محمدٍ صلّى الله عليهِ وسلم مِمَّن آمَنَ، وكان له قدمٌ وفَضلٌ في الإسلامِ، كعبدِ الله بنِ سَلام، وكعبِ الأحبارِ، ومنهم غيرُ ذلك ممّن آذوا أنبياءَهم، وحلّ بهم غضبُ اللهِ، وحقّت عليهمُ اللعنةُ، فهم كغيرِهم، لا كما يدّعونَ أنهم أبناءُ اللهِ وأحباؤُه.
وبدأت الآيةُ بالذينَ آمنُوا، ويراد بهم في عرفِ القرآنِ المسلمونَ، أي مَن حصلَ لهم الإيمانُ بمحمد صلى الله عليه وسلم، (والّذينَ هَادُوا) الذينَ يدينونَ باليهوديةِ، دينِ التوراةِ، وأصلُ كلمةِ يهود: يهوذا، الذي هو أحدُ أبناءِ يعقوب عليه السلام، وفرعُه سبطٌ مِن أسباطِ بني إسرائيلَ، وانضمّ إليهم في مملكتهم بـ(أورشليم) فروعٌ مِن أسباطٍ آخرينَ، كسبطِ بنيامين وغيرِهم، ولذا جاءَ التعبيرُ عنهم بـ(الّذينَ هَادُوا) لا يهوذا؛ لأنّهم ليسُوا كلّهم أبناء يهوذا، (والنَّصارَى) جمع ناصري، نسبة إلى أنصارِ المسيحِ في قوله: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)[1]، أو إلى مدينة الناصرة، التي كانتْ بها مريم أم المسيح عليهما السلام، لذا فاليهود يسمون المسيح عليه السلام يسوع الناصريّ، وقد خرجت مريمُ من الناصرة قاصدةً بيتَ المقدس، فولدتِ ابنَها ببيتِ لحم، والمرادُ بالنصارَى المتدينونَ بدينِ الإنجيلِ، (والصّابِئُونَ) الصابِئُ مَن خَرجَ مِن دينٍ إلى دِين، وكانتِ العربُ تقولُ عمَّن أسلمَ: صَبَأَ، وقُرئ مهموزًا ومِن غيرِ همزٍ، فالمهموزُ مِن صبأَ بمعنَى مَالَ، فكأنهم مالوا إلى عددٍ من الأديانِ السماوية والوثنية، ولفقوا منها دينًا، وغير المهموز مِن صَبَا كَـ(رَمَا)، واسمُ الفاعلِ صَابٍ منقوصٌ كـ(رَامٍ)، وهو كسابقِه مِن المَيل، والصابئَةُ: مِن أقدمِ الأديان الوثنيةِ بالعراقِ والشامِ، وتسمّى في كتبِ العقائدِ بالحَرَّانيين؛ لأنها اشتهرت بحَرَّان من بلاد الجزيرة العربية، ولما تغلب الفرس على العراق، والرومان على الشام، حملوهم بالسيف على ترك الوثنية، فأخذ الصابئة شيئا من دين النصارى وشيئا من دين اليهود، وخلطوه ببعض العبادات الوثنية، ومزجوا ذلك بشيءٍ من الروحانيات، قالوا: لعجز البشر عن معرفة الله، وهذه الروحانيات تسكن حسب تخيلاتهم الكواكب، فعبدوا الكواكب، ومن معتقداتهم: إنه لا حاجة إلى الرسلِ، ولهم ثلاث صلوات في اليوم، ويصومون ثلاثين يومًا متفرقة، ويغتسلون من الحيض والجنابة، ويتزوجون ما شاؤوا من النساء، فهم بين أهل الكتاب والوثنية، قال مالك: “لا تؤكلُ ذبائحُهم ولا تنكحُ نساؤُهم”، واقتصرت الآية هنا على هذه الأديانِ الثلاثة، دونَ ذكر المجوسِ والدهريين؛ لاشتراكِ الثلاثة التي ذُكرت في أصلِ الإيمان بالله، ولأنهم أقربُ من غيرهم إلى الهداية.
(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يجوزُ أن يُجعل (مَنْ) اسمًا موصولًا بدلًا مِن (الذينَ آمَنوا) وما عُطفَ عليهِ، ويكونُ المعنَى: إنّ مَن آمن مِن المسلمين ومن أصحابِ هذه الأديان، ثم أتَى بالإيمان على التحقيقِ وأكملَهُ بالأعمالِ الصالحةِ، فلهُ أجرُه، ويكونُ (فَلَهُم أَجْرُهُم) هو خبر (إنّ)، واقترانُ الخبرِ بالفاءِ وإنْ كان قليلًا عند النحاة، فقد تكرّر في القرآنِ، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[2]، ويجوز أن تكون (مَنْ آمَنَ …) جملةً شرطيةً مُستأنَفة مبتدأ، جوابُها وخبرُها (فَلَهُم أَجْرُهُم عنْدَ رَبّهِمْ)، وجملةُ الشرط وجوابُه خبرُ (إنّ الّذِينَ آمَنُوا)، أي: إنّ مَن آمنَ ممَّن ذُكّرَ مِن المسلمين واليهود والنصارى والصابئةِ، عليهِ أنْ يحققَ الإيمانَ باللهِ واليوم الآخرِ، ويكملَهُ بالصالحاتِ؛ لينالَ ثوابَ الله، ويأمنَ، يومَ يفزعُ الناسُ، وأفردَ الفعلَ (آمَنَ) مراعاةً للفظِ (مَن)، سواء جُعلتْ مَنْ شرطيةً أم موصولةً، وعادَ الضميرُ (فلهُم أجرُهم) عليهم جمعًا مراعاةً للمعنَى، كما قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)[3]، وإذا روعِيَ في مثلِه اللفظ أوّلًا، جازَ مراعاةُ المعنَى ثانيًا، بخلافِ العكسِ، فالانتقالُ مِن المفردِ إلى الجمعِ سائغٌ؛ لأنّه مقتضَى التدرجِ الترتيبيّ، دونَ عكسِه.