المنتخب من صحيح التفسير – البقرة 50
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
– الحلقة (50).
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ).
(مِيثَاقَكُمْ) المِيثَاقُ: العَهْد، و(الطُّور): الجبل الذي كلَّم اللهُ تعالى عندَه موسى، وقيلَ اسمٌ لكلِّ جبلٍ.
لمّا رجع موسى عليه الصلاة والسلام إلى قومِه بالألواح فيها التوراة، بعد أن كلمه ربُّه بالطور، امتنع قومُه عن أخذها والعمل بها، قالوا حتى نرى اللهَ جهرةً، فصُعقُوا، أخذتهم الصعقة وماتوا، ثمّ عفَا الله عنهم وأحياهُم، فامتنعوا مرةً ثانيةً عن أخذِ الألواح، وقالوا: حتّى يكلمَنا اللهُ، كما كلمَ موسى بجبلِ الطور، فعاقبهم الله عقوبة أخرى، انتزعَتِ الملائكةُ الجبلَ واقتلعته، ورفعتهُ فوقَ رؤوسِهم فكان معلقًا فوقهم كأنه سحابةٌ تظلّهم، حتّى ظنُّوا أنه واقعٌ بهم، نازلٌ على رؤوسهم، كما قال تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِم)[1]، فخافوا وسجدوا لله طائعين، لمَّا رأوا العذاب، وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يأخذوا التوراة بقوةٍ واجتهادٍ، وعزمٍ على أنْ يعملوا بما فيها، ويحافظُوا عليها، وفي قوله: (بِقُوَّةٍ) وقوله: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) تنبيهٌ إلى أنّ الغاية من الكتب المنزلة هيَ تدبرُ معانيها، والعملُ بما جاء فيها، وأخذُ النفوس بها أمرًا ونهيًا، والوقوف عندها، لا حفظُ حروفِها وترتيلُ ألفاظِها وتضييعُ أحكامِها، كما هو شائعٌ اليومَ بين الناس في أخذِهم للقرآن، وهو ما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بوقوعه في آخر الزمان.
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): العملُ بما نزل به الوحي هو الطريقُ الموصل إلى تقوى اللهِ تعالى ورضوانِه.
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أعرضتم ونكثتم العهدَ، وارتددتُّم على أدباركم، مِن بعدِ أخذِ العهد عليكم، وتخويفكم بالعذاب المرة بعد المرة، فقد تكرّرَ نكثُهم، ومِن أشنعِهِ عليهم عبادتُهم العجلَ، حينما أضلّهم السامريّ.
(فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) لولا فضل الله تعالى وإحسانُه إليكم بالإسلام والقرآن لوقعَ بكم ما تستحقّونَ، فهو وحده الذي نجَّاكم مِن سوءِ عاقبة إعراضكم، و(لولا) أداة امتناع لوجود، فيها معنى الشَّرط، و(فضلُ الله) مبتدأ، وخبرُه محذوف، وخبر المبتدأ بعد لولا يحذف وجوبا إذا كان كونًا عامًّا، وعلامته أنْ يقدَّر بلفظِ (موجود) ونحوه، تقديره هنا: (لولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه موجودانِ)، ولا يُذكر الخبرُ بعد لولا إلّا إذا كان كونًا خاصًّا، مثل: لولا القارئُ مجوِّدٌ لمَا فازَ، فإذا أرادُوا إظهارَ الخبرِ بعد لولا جاؤوا بِأنّ، مثل: لولا أنَّ الحارسَ نائمٌ لمَا سُرقَ المتاعُ.
(لكنتم) جوابُ لولا.
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا) يمكن أن يكون العِلم هنا متوجهًا إلى معرفةِ ذواتِهم، فتكونُ عَلِمَ بمعنَى عَرَفَ، وتتعدّى إلى مفعولٍ واحد، ويمكنُ أن يكون العلم متوجهًا إلى معرفة أحوالِهم والأحكام المتعلقة بهم، فتكونُ عَلِمَ على أصلِها، وتتعدّى إلى مفعولينِ.
و(اعْتَدَوْا) أصلُها مِن العَدْوِ، وهو مجاوزةُ الحدِّ في السيرِ، ثم استعملَ الاعتداءُ في مجاوزةِ الحدِّ في الشرورِ والظلمِ، (فِي السّبْت) في يوم السبت، والسبت يرجعُ معناهُ إلى القطعِ والإتمامِ؛ لتمَامِ الخَلقِ فيه، أو مِن السّبوتِ وهي الراحةُ والدَّعَةُ، وتعدّيهم في السبت هو صيدُهم الحيتانَ فيه، وقد حرّم الله تعالى عليهم الصيد يوم السبت؛ ليتفرغُوا للعبادة، فكان مِن ابتلاءِ الله إياهم، بعدَ موسَى زمَنَ داود عليهما السلام، أنّ الحيتانَ كانت تأتي إلى شواطئِهم يومَ السبتِ شُرّعًا مُقبلةً، وفي غيرِه لا تأتيهِم، فتحايَلوا على التحريمِ بنصبِ الشباكِ وحفر الخلجانِ نهارَ يوم الجمعة، لتبقَى محبوسةً بها فيُخرجونَها مِن الغدِ، تحايلًا على الشرعِ، واستهزاءً بحكم الله، بإبطال معنى التحريم الذي فرضه عليهم، ولِما يتضمنُّه فعلهم مِن الاستدراكِ على الله، بأنهم أعلمُ منه بمَا ينفعهم، وقد فعلوا مثل ذلكَ عندما حُرّمت عليهم الشحومُ، تحايلوا عليها بإذابتها، ثم باعوها وأكلُوا ثمنها، وكان عاقبة من تعدّوا في السبتِ أنْ مسخَهم الله قردةً.
(فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) مسخ الله تعالى أجسامَهم وذواتِهم أجسامَ قردةٍ، فكانوا مُبعَدينَ مِن كلّ خير، والخاسئ هو المبعَدُ في مَذلةٍ وصَغار، ومنه قوله تعالى: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)[2]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن مُسخَ وهلكَ مِن الأُمم، لا ينسِلُ، ولا يبقَى له عقبٌ، ولا يعيشُ أكثرَ مِن ثلاثة أيام، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا، فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ)[3]، أي: قبل مسخ بني إسرائيل، فلا يَردُ عليه أنّهم مِن نسلِهم الممسوخ.
وما وردَ في السنةِ ممّا يخالفُ ذلك، وأنّ الفأرَ مِن مسخِ بني إسرائيلَ؛ فمؤولٌ بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله عن اجتهاد، قبلَ أن يعلمَه اللهُ تعالى أنّ الممسوخَ لا يعيشُ أكثر مِن ثلاثة أيام، ولا يتناسلُ.
مِن ذلكَ – أي الذِي قالَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أولَ الأمر – ما جاءَ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعدَ قوله: (فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ) قولُه: (لاَ أُرَاهَا إِلاَّ الْفَأْرَ)[4].
(فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا) عقوبة زاجرة، والنكالُ العقوبةُ الشديدةُ الرادعةُ، وأصلُ النّكالِ المنعُ؛ لأنّه يمنعُ من العَوْدِ، ويسمى القيدُ نَكالًا لمنعِه من الحركةِ، والضميرُ في جعلناهَا للعقوبةِ، أو للقريةِ وما نزلَ بأهلِها من عقوبةِ المسخِ، جعلَها الله تعالَى عقوبةً زاجرةً وعبرةً بالغةً.
(لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) لمَن حضرَ في ذلك الوقتِ، (وَمَا خَلْفَهَا) وزاجرةً أيضًا لِمَا يأتي ومَن يأتي بعدها.
(وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) عِظَة يعتبرُ بها أهلُ التقوى فتحجُزُهم عنِ الآثامِ.