سلسلة مقالات عن الاعتصامات، أسبابها ودواعيها 1 همسة في أذن المعتصمين
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة مقالات عن الاعتصامات، أسبابها ودواعيها
1 همسة في أذن المعتصمين
مِن الأسبابِ المباشرة للاعتصاماتِ بتعطيلِ العملِ؛ غيابُ العدالةِ الاجتماعية، والتفاوتُ الكبيرُ بينَ مرتباتِ العاملينَ في الدولة، وهو تفاوتٌ هائل غيرُ مدروس، يصل إلى أنّ ما يأخذه أحد العاملين في ثلاث سنوات أو أكثر قد يأخذه آخر في شهر واحد، وكانتْ بعضُ الحكوماتِ السابقة تزيدُ مرتباتِ قطاعاتٍ في الدولةِ بطريقةٍ هي إلى الرشوةِ وشراءِ الولاءِ، أقربُ منها إلى الرشدِ والحكمةِ والعدلِ.
ولكن مهما كانت المبررات، فلا ينبغي أن تكون المطالبة بالحقوق في هذه الظروف القاسية التي تمر بها البلد، وفي هذا الوقت من العام لقفل الميزانيات، بتوقيف الأعمال وتعطيلها، لأن هذا لا يُصلح من الأمر شيئا، ولا يوصّل المعتصمين إلى حقوقهم، وإنما يزيد الأمر سوءا، ويخدم الأعداء المتربصين بالثورة.
ومنذُ أنْ أَصدر مصرفُ ليبيا المركزي أولَ تحذير، يُبينُ فيه العجزَ السابقَ والمتوقّعَ في الميزانيةِ؛ محذرًا مِن تداعياتِه الخطيرةِ على البلد، في ظلّ توقفِ النفطِ عن التصديرِ؛ أصدرتْ دارُ الإفتاءِ منشورًا بشأن ترشيد الإنفاق بتاريخ 18 صفر 1436 هـ الموافق 11-12-2014 http://bit.ly/ifta_manshur
خاطبتْ فيه الحكومةَ والمؤتمرَ الوطنيّ، والشعبَ الليبيّ الكريمَ، تدعوهم إلى أن يأخذوا الأمرَ بما يستحقّه مِن الجدّيةِ، ويعلنُوا خطةً للتقشفِ، تبدأُ بتخفيضِ مرتباتِ الحكومةِ والمؤتمرِ، والعاملينَ بالخارج، وتقليص أعدادهم، وكذلك مَن رُفعتْ مرتباتُهم عشوائيا بالداخلِ، وتوقيفِ الإيفادِ بصفةٍ مؤقتةٍ، وقطعِ الدعمِ على السلعِ مع ضمان وصول التعويض عنه نقدًا إلى مستحقيه.
طالبتْ دارُ الإفتاءِ بذلك منذ عام؛ لِمَا رأتْ فيه مِن مصلحةٍ حقيقيةٍ، تعودُ بالفائدة على استقرارِ البلدِ؛ لأنّه إصلاحٌ بتقريب الشّقة، أقربُ إلى العدلِ، الذي أمرَ الله تعالى به في قوله: (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، وقوله: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، لكي لا تشعُرَ الشريحةُ الكبيرةُ مِن العاملينَ في الدولة بالظلمِ، للفروق الهائلةِ في المرتباتِ.
لم يحصُل شيءٌ مِن هذا! بل توسَّعتْ رقعةُ فروقِ المرتبات؛ وبعضها كان يفرضُ بالابتزازِ، وقوةِ السلاحِ، وانضمَّ إلى ذلكَ فسادٌ ماليّ، يتمدَّدُ في أجهزةِ الحكومةِ والمؤسساتِ، يومًا بعد يومٍ، مِن مسؤولينَ كبارٍ وصغارٍ، منه ما هوَ مكشوفٌ مشهورٌ، ومنهُ مَا هو مستورٌ.
ونظرا لما تعانيهِ الخزينةُ العامّة مِن العجزِ؛ يكادُ يقتصرُ الصرفُ – هذا العام – على بابِ المرتباتِ وحدَه، فانعكسَ هذا سلبًا على الأداءِ العامّ بمؤسساتِ الدولة، بِما فيها الناحيةُ الأمنية، وعجزَت إدارات الحكومة حتى على توفير الأقلامِ والحِبر!
فما الحلُّ، والاعتصاماتُ تتنقَّلُ مِن قطاعٍ لآخرَ؛ كتنقُّل الحريقِ في الهشيمِ؟!
بالأمسِ المعلِّمون، وبعدَهم العاملونَ بوزارةِ الماليةِ، وتعطيلُ العملِ بالماليةِ؛ معناهُ الشللُ الكاملُ لجميعِ أركانِ الدولةِ، فهو الأسوأ، وهو القطاع الذي لا ينبغي أن يتوقف، ولحقَ بهم العاملونَ في مركزِ البحوثِ الصناعيةِ، والحبلُ على الجرَّار!
ومطالب الجميع واحدةٌ؛ زيادةُ المرتباتِ، فإذا كانَ الرصيدُ ينضبُ، والمنبع معطل، وينذرُ بالعجزِ عن دفعِ المرتباتِ القائمة، فمِن أينَ تجدُ الحكومةُ مَا تُلبّي به الزياداتِ التي يعتصمُ أصحابُها؟! وهل أدَّى كل المعتصمين ما عليهم ليطالبُوا بما لهم؟!
هناك من يؤدي، وهناك من لا يؤدي، وهم الأكثر.
القرآنُ يتوعدُ أصحابَ الفسادِ، يحذرُهم؛ أنْ يكُفُّوا، قبلَ أن يحلّ بهم ما توعَّدَ اللهُ به قارونَ: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، ثم قال عنه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ)، وقال عن عاقبةِ كلِّ مفسدٍ: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ.)
وإني لأهمِس في أذن كل مسؤول عن وزارة أو مؤسسة وتورَّط في فسادٍ، أو عجز عن محاسبةِ المتورطينَ: أنْ يتخلى، ويُفسِح المجالَ لغيره، فإنّ التخلي والترك أهونُ مِن النارِ، لأن المرْءُ يصبرُ على الترك، لكنه لا يصبرُ على النار، والترك لكلّ مَن وليَ أمرًا آتٍ لا محالةَ، ولٓأنْ تلقَى اللهَ وأنت قد تركت، شعورا منك بثقل الامانة، خيرٌ مِن أن تلقاهُ غاشًّا للرعيةِ، فإن الإمارة يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى ما عليه فيها، ومن ماتَ يومَ يموتُ غاشا للرعية؛ حرّم اللهُ عليه الجنةَ، كما أخبرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصحيحِ.
كما أهمس في أذن الذين يعتصمون، في المالية، وفي غيرها: الوطنُ يُطالبُكم بالرجوعِ إلى أعمالكُم، لا تهدِموا البيتَ على رؤوسِ أهلِه، وطالِبوا بحقوقِكم بالتي هي أحسن، فإنّ البيتَ إذا سقطَ لا ينجُو أحدٌ!
أما اللجنةُ المشكلةُ لمراجعةِ المرتباتِ، وإعادةِ جدولتها، بقرارٍ مِن المؤتمر الوطني العام، فقدْ حانَ في الأيامِ القليلة القادمةِ أجلُ تقديمِ مقترحِها، أتمنّى ألَّا تتأخَّرَ، وتقدمَه في الموعدِ، وأهمس لهم بقولِ الحكيم الخبيرِ: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ).
الصادق عبد الرحمن الغرياني
19 محرم 1436 هـ
الموافق 1 نوفمبر 2015 م