بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (2523)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
انتشرت ظاهرة التسول هذه الأيام، في الطرقات والأسواق، وثبت تحايلُ كثير منهم، مع اشتمال هذه الظاهرة على التجارة بالأطفال، وتوفير أوكار الدعارة؛ كما في تقرير وزارة الشؤون المحلية، المستند إلى التحقيقات الأمنية بالخصوص.
عليه؛ نرجو منكم بيان حكم هذه الظاهرة، وحكم تشجيعها بالتصدق على هؤلاء المتسولين.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فلقد امتن الله تعالى على البشر جميعا بأن خلقهم مكرمين، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء:70]، وحضَّت الشريعة الإسلامية على ضرورة صون المسلم نفسه عن الابتذال، والتعرض للإهانة، والوقوفِ بمواقفِ الذل والهوان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه) [الترمذي:2254،ابن ماجه:4152]، وإن من أعظم ما يذلُّ الإنسان، ويتنافى مع كرامته في الدنيا، ويعرضه للعقوبة في الآخرة؛ اتخاذُه التسولَ مهنةً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم) [البخاري:1405،مسلم:1040]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا؛ فليستقل أو ليستكثر) [مسلم:1041]، فالمحترفون لهذه المهنة يأكلون أموال الناس بالباطل، ويُطعمون أبناءهم حرامًا؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يَربُو لحمٌ نبتَ من سحتٍ إلا كانت النارُ أولى به) [الترمذي:614]، ولن يزدادوا إلا قلةً وفقرا؛ ففي الحديث: (من ادّعى دعوى كاذبةً ليتكثّر بها لم يزده الله إلاّ قلّةً) [مسلم:110]، وقد تسببوا – باحتيالهم وانكشاف ادعاءاتهم – في قطعِ الطريق على المحتاجين حقيقةً؛ لامتناع المحسنين عن التصدق على السائلين مطلقًا، فيشملهم بذلك قوله تعالى: (وتَذُوقُوا السُّوءَ بمَا صَدَدْتُم عَن سَبِيلِ اللهِ) [النحل:94].
وهذه الظاهرةُ تشوهُ سمعةَ البلد، وتسيءُ إلى أهلِه، وقد عالجها الإسلامُ بأمرين:
الأول: تحريم المسألة على كل مَن يملك ما يُغنيه عنها؛ مِن مال أو قدرةٍ على التكسبِ، سواءٌ كان ما يسأله زكاة أو تطوعًا أو كفارةً؛ ففي الحديث: (مَن سألَ وعندَه ما يغنِيه فإنّما يستكثرُ من النار، قالوا: يا رسول الله؛ وما يغنيه؟ قال: ما يغدّيه أو يعشّيه) [أبوداود:1629]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلُّ الصدقة لغنيّ، ولا لذي مرة قوي) [أبوداود:1634]. وقال صلى الله عليه وسلم لقبيصة الهلالي رضي الله عنه: (يا قبيصة؛ إنّ المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالةً فحلّت له المسألة حتّى يصيبها، ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلّت له المسألة، حتّى يصيب قوامًا من عيش – أو قال: سدادًا من عيش – ورجل أصابته فاقة، حتّى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلّت له المسألة، حتّى يصيب قوامًا من عيش – أو قال: سدادًا من عيش – فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة سحتٌ، يأكلها صاحبها سحتًا) [مسلم:2591].
الثاني: الحض على العمل والإنتاج، وجعل أفضل ما يأكل الرجل من كسب يده؛ ففي الحديث: (ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا مِن أن يأكلَ مِن عمل يدِه، وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكلُ من عمل يده) [البخاري:1966]، وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ الكسب أطيبُ؟ فقال: (عملُ الرّجل بيده، وكلُّ بيع مبرور) [أحمد:17265].
ومما سبق يتبين أنه لا ينبغي تشجيع هؤلاء المتسولين بالتصدق عليهم، خاصةً بعد ثبوتِ ما نتج عن هذه الظاهرة؛ من الفساد والمنكرِ المذكور في السؤال، كما ينبغي نصحُهم ووعظُهم؛ كي لا يأكلوا أموال الناس بالباطل.
وعلى الجهاتِ المسؤولة محاربة هذه الظاهرة، التي جرمها القانون، وعاقب عليها، والأخذ على أيدي هؤلاء، وتطبيق القانون عليهم.
وأما مَن كان في ضيقٍ وكربةٍ وحاجةٍ ملحة؛ فعليهِ مراجعةُ صندوق الزكاة، والجمعياتِ الخيرية، فإن سؤالَ السلطانِ والسؤالَ عندَ الضرورة لا حرجَ فيه؛ كما في الحديث: (المسائلُ كدوح، يكدحُ بها الرّجلُ وجهَه، فمن شاءَ أبقى على وجهِه، ومَن شاءَ تركَ، إلّا أن يسألَ الرّجل ذا سلطانٍ، أو في أمرٍ لا يجدُ منه بدًّا) [أبوداود:1639،النسائي:2599]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
محمد الهادي كريدان
أحمد ميلاد قدور
غيث بن محمود الفاخري
نائب مفتي عام ليبيا
15/ذو القعدة/1436هـ
30/أغسطس/2015م