طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (342)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (342)
[سورة الأنعام:124-127]

(وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ)(124)
القائلون (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) هم المشركون في مكة فالضمير في (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ) يعود عليهم، ونسب القول إليهم جميعا والقائل بعضهم لأن من لم يقله رضي به، فالعمومُ في (قَالُوا) هو مِن العام الذي أريدَ به الخاص.
وقوله (جَاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي: إذا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية من القرآن وبلّغهم بها، قال بعضُ أكابرِ مجرمِيهم (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) فأكدُوا كفرهم بردِّ آيات القرآنِ، وقالوا عنادًا: لن نتزحزح عمَّا نحن عليه، حتى ينزل علينا الوحي، ونؤتى مِن المعجزاتِ الحسيةِ الخارقةِ للعادة (مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) قالوا إذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يريدنا أن نؤمن له ونصدقه، فليسل ربه أن يأتينا بالمعجزات الخارقة؛ مثل ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام، فلم تكفهم آياتُ القرآن تتلى عليهم، وزعموا كذبًا أن الذي يجعلهم يؤمنون هو حصولُ خوارقِ العادات تنزل عليهم وتحصل منهم.
وقد حكت هذه الآية – (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) – بعضَ ما قاله رؤوس الكفر في مكة، فقد روي أَنَّ بعض كبار مجرميهم، منهم الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَةِ، قَالَ للنّبي صلى الله عليه وسلم: “لَوْ كَانَتِ النُّبُوءَةُ لَكَنْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْكَ؛ لِأَنِّي أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا وَأَكْثَرُ مَالًا وَوَلَدًا”، وَمنهم أبو جهل قَالَ: “زَاحَمَنَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فِي الشَّرَفِ، حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيءٌ يُوحَى إِلَيْهِ، وَاللهِ لَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَتَّبِعُهُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيه”( ).
فردّ الله تعالى عليهم بقوله (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتهُ) الرسالة لا تنزل على أحدٍ حسب طلبه، ولا يؤهِّل نزولها كثرةُ المال والولد، أو العزة والمنعة بالنَّسب والقبيلة، وإنّما هي اصطفاء واختيار، يجتبي الله به من يشاء من عباده، ممن يعلم أنه قادرٌ على تحمّل أعبائها وأثقالها، والقيام بتكاليفها ومتطلباتها، فيختار الله لها مَن يشاء، فهو (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وبيَّنَ الله تعالى كذبَهم في عددٍ من مواضعِ القرآن، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا۟ ‌لَوۡلَا ‌نُزِّلَ ‌عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰۤ أَن یُنَزِّلَ ءَایَةࣰ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ﴾( )، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَاۤ إِلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَٰۤئِكَةَ ‌وَكَلَّمَهُمُ ‌ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَیۡهِمۡ كُلَّ شَیۡءࣲ قُبُلࣰا مَّا كَانُوا۟ لِیُؤۡمِنُوۤا۟ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ یَجۡهَلُونَ﴾( ).
و(أَعْلَمُ) أفعل تفضيل، و(حَيْثُ) أصلها ظرف مكان، وهي هنا ظرفٌ متصرّف، يعربُ حسب ما قبله، فوقعت مفعولًا لفعل محذوف، دلَّ عليه (أَعْلَمُ)، والتقدير: الله يعلمُ المكان حيث يكون صاحبه محلًّا لرسالته، لا كما يظن المتكبرون والجاهلون، أنَّ تعززهم بأموالهم أو قبائلهم يجعلهم أحقّ بالرسالة من النبي صلى الله عليه وسلم و(الَّذِينَ أَجْرَمُوا) هم المشركون، وبخاصة كبراؤهم الذين تقدّم ذكرهم، وهم أكابر مجرميها، وأعيدوا بالاسم الظاهر (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بدل الضمير (سيصيبهم) لتسجيل الإجرام عليهم، وللإشعار بأن ما أصابهم من الصغار سببُه إجرامهم والصَغار المذلة والهوانٌ في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يصيبهم الصغار والهوان بالقتل والأسر والمذلة، وفِي الآخرة هوانُهم بالعذاب الشديد، وفي المحشر على رؤوس الأشهاد.
فالآية توعُّدٌ من الله للمتكبرين، الزاعمين استحقاق الرسالة، وأنهم أولى بها من النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى بهم الذلَّ والهوانَ لتكبُّرهم وغرورهم، فكان الجزاء من جنس العمل، وكونُ الصّغار (عِنْدَ اللهِ) يدلّ على هوله وشدته وأنه مقدرٌ ثابتٌ، لا مناصَ منه، والباء في (بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) للسببية، و(ما) موصولة أو مصدرية، أي: نزولُ الهَوانِ بهم بالذي كانوا يمكرونَه بالمسلمينَ، أو بسببِ مكرِهم بهم.
(فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسۡتَقِيمٗاۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَذَّكَّرُونَ)(125-126)
عندما قال المشركون في الآية السابقة (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) وكذَّبهم الله، وقال إنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية، أعقبَ اللهُ ذلكَ بالأمر الفصلِ في قضية الإيمان، وأنه لا يحصل إلا لمن أراد الله تعالى له ذلك، وله أسبابٌ -هي أيضًا- الله يهيئُها للعبد، لا غيرُه، فمَن يردِ الله هدايته للإسلام وفقه إلى الأخذ بأسباب الهدايةِ لحرصه عليها، وشرح صدره لها، وجعلَ قلبه يتعلق بها ويدرك ما فيها من خير، ورزقه الاهتمام والنظر والتفكر في آيات الله ومعجزاته بتجرد وتبصر، بعيدًا عن العناد والمكابرة، وعن التقليد الأعمى لموروث الآباء والأجداد، وللمؤثرات الأخرى المحيطة به، عصبية أو غيرها، فمن فعل ذلك هداه الله ووفقه للإسلام، وعلى العكس؛ من يرد الله خذلانه وعدم توفيقه للإسلام يصرف قلبه عن محبة الإسلام، ويجعله شديد الضيق به، منقبضًا عن النظر في دلائله وآياتهِ، منصرفًا عن محاسنه، لا يرى إلا ما تزينه له نفسه من أهوائه ووساوس أوهامِه (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ).
فالهداية هي التوفيق للإيمان، والانقياد والإذعان لله، والاستسلام، وترك الكفر والعناد، فالمتعلِّق بفعل (يهديَه) محذوفٌ؛ للعلم به من السياق، تقديره: فمن يرد الله أن يهديه للإسلام.
و(يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) يحبب إليه الإسلام (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) مِن الضلال، وأصله عدم معرفة الطريق الموصلة إلى المقصود، وإضلالُه صرفُه عن الصراط المستقيم، صراط الله دين الإسلام، والنظر في آيات القرآن، فيخذُله ولا يوفقه إليه، و(ضيّقًا) مِن الضيق، وهو الانقباضُ والانصراف، وعدمُ الإقبال على الإسلام، و(حَرَجًا) من الحرج، وهو شدّة الضيق، وعلى قراءة فتح الراء هو مصدر، أي يجعله ذا حرج في صدره، وعلى قراءة الكسر اسم فاعل أو صفةٌ مشبهة، مبالغة من الحرج، كفرِحٍ من الفرح، وحذِرٍ من الحذر.
وقوله (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) أي يصيبه من الإسلام – من شدة الضيق في صدره والانقباض والقلق وعدم الارتياح – ما يصيبُ مَن يَصعَد إلى السماء أي إلى الأماكن العالية في الارتفاع، التي يقلُّ فيها الهواء الصالح للتنفس، فلا يكون همّه إلا الفرار منها، إلى حيث يجد راحةً تخرجُه من هذا الضيق يتنفس فيها الصعداء، فالتفعيلُ في (يصَّعدُ) للمكابدة، وتكلفِ المشقة( )، والرجس أصله الخبثُ والقذر، ومنه قوله تعالى: ﴿‌وَثِیَابَكَ فَطَهِّرۡ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ﴾( )، وهو خبثُ الشركِ وخبثُ النفس، وشهواتها التي تصرفهم عن الإيمان؛ لأنها أرجاسٌ وأقذارٌ معنوية بعضها فوق بعض، وخبثُ النفس ورجسها وإن كان أقلّ من الشرك فيجبُ الحذر منه؛ لأنه يتكاثرُ حتى ينتهي بصاحبه إلى الشرك، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ ‌فَزَادَتۡهُمۡ ‌رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُوا۟ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾( ).
ومعنى قوله (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أي: ومثل ذلك الرجس والخبث، الذي جعله الله في كل زمانٍ ومكانٍ، في قلوب الذين لا يؤمنون وعذبهم عليه، جعل مثله في قلوبِ هؤلاء المعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم، الذين لا يؤمنون، فمصيرهم إلى العذاب كمصير من سبقهم.
وقوله (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) عطف على قوله (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) والإشارة بقوله (وَهَذَا) إلى الإسلام، أو إلى بيان وتفصيل القرآن، والـ(صِرَاطُ) الطريق، و(مُسْتَقِيمًا) منصوبٌ على الحال( )، أي لا اعوجاج فيه، فهو أقرب طريق يوصل إلى مرضاة الله، وإضافة الصراط إلى الربّ لبيان منزلة الصراط، وأنّ غيره من السبل ليست من صراط الله، بل من طرق الشيطان.
وإضافة الربّ إلى كاف الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لتشريفه وتثبيته، كما في إضافة بيت الله ومساجد الله، وهي شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم، لتثبيته بأنه على صراط ربه، وإنْ أفرطَ أعداؤه في المكر به وعناده.
(قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ) آيات القرآن فصلَها الله، وبيَّنَ أنها الحق أتمَّ بيانٍ، واللام في (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) للتعليل، فالبيان والتفصيل لآيات القرآن؛ لأجل أن تتيسر الهداية إلى الإسلام لكل من أراد التذكر بالآيات، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ یَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن ‌مُّدَّكِرࣲ﴾( ).
(لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ)(127)
الضمير في قوله (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ) يعود للمؤمنين، الذين وُصفوا في الآية السابقة بأنهم على الصراط المستقيم، وانتفعوا بالذكرى في قوله (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)، فالمسلمون حازوا هذا الشرف الذي خصَّهم الله به من عنده، بأن جعلهم من أهل كرامته في الجنّة ومن أهل الأمان والسلام من العذاب، بسبب ما قدّموه من الإيمان والأعمال الصالحة.
فـ(دارُ السَّلامِ) الجنة، والسلامُ الذي أضيفت إليه معناهُ الأمانُ الكامل، الذي ليس معه خوفٌ ولا تنغيصٌ، ويجوز أن يراد بالسلام اسم الله، فمن أسمائه سبحانه وتعالى السلام، بمعنى: سلامة ذاته وصفاته وأفعاله من كلّ عيبٍ ونقصٍ، والسلام العائد على عباده كلّه منه، وأضيفت له الدار – وهي الجنّة – لتشريفها، كما يقال للكعبة: بيت الله.
وتقديم الجار والمجرور (لَهُمْ) للاختصاص، فالجنة خاصة بالمؤمنين، وكذلك السلامُ يومَ الفزع الأكبر خاصٌّ بهم، وقوله (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما أعد لهم من الجنة والسلامة مدخرٌ ومخبأ ومقدر لهم عند ربهم، وجملة (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) عطف على قوله (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ) أي: الله هو المتولي أمرهم ونصرتهم، وهم في ضيافته وعنايته، بسبب ما قدموه من الأعمال الصالحة، فالولي: الناصر والمجير والحافظ، والباء في قوله (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) للسببية.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق