في سبيل السعي إلى الإصلاح، انتهت دارُ الإفتاء إلى أنه لا جدوى من استجرار خصوماتِ الماضي التي ما زادت على مدى أربع سنوات الأطرافَ إلا عناداً، والشُّقةَ إلا اتساعا، وأوضاعَ البلاد إلّا سوءًا وخرابا.
ولم يَستفدْ من اتساع الخلاف إلّا خصومُ فبراير، سواءٌ المعلنونَ عداوَتَهم، أو المتلونونَ الذين هم في كلِّ مشروعٍ أعينُهم دائما صوبَ مناصبِ النفوذ، الدَّرورِ الحَلوبِ.
وما مِن يومٍ تطلع شمسُه على مدى هذه السنوات إلا ويزدادُ علينا شره، وينقصُ خيره، ولا أحد يقدر أن يصنع شيئا.
وكل محاولةٍ تُقدّم للحكومة، فيها بصيصُ إصلاحٍ بَيّن لا يحتاج إلى برهان، تُجهض، ولا يتحصلُ أصحابُها مهما كان قدرُهم إلّا على الوعودِ، وأطيبِ التمنياتِ!
ولو خَرجَتْ مبادرة إصلاح جادة في الأثناءِ فَهِم منها المتحكمون في المشهد – وعلى رأسهم البعثة الأممية – الخروجَ عن الطاعةِ – وإن لم تكن كذلك – لاستدعوا المجتمعَ الدولِي على عجل، كما في مشروع الحرس الوطني، وللوَّحُوا لمن تُسوِّل له نفسُه الإساءةَ بالإدراج على قائمة العقوبات.
ولا أدلّ على إعراض الحكومة عن الإصلاح، مِنْ تمسكها بالأداء الوزاري المتدني، الذي هو إلى دعم العدو أقربُ منه إلى دعم من يموتون دفاعا عن طرابلس، على الرغم مما يرونه بأعينهم من العجز والتخاذل، وعلى الرغم من المطالبات الكثيرة بالتغيير التي لم تتوقف.
ولو كان المسؤولون في بلادنا يتألمون حقا على أرواح مواطنيهم، ويخشون المساءلة الدنيوية – لا أقول الأخروية، لأننا في غفلة عنها – كما يخشاها من في بلاد الغرب عندما يُعتدى على شعوبهم، لتحالفوا مع أعداء الإمارات في المنطقة لضربهم بالطائرات المُيسرة في عقر دارهم، كما يصنعون بنا ليل نهار في عقر دارنا بكل أريحية، وحكومتنا تتفرج، وتُقدم قوافل الشهداء من خيرة شبابنا، وكأن من يموتون كل يوم ليسوا بشرا!
ولو دفع المسؤولون في سبيل هذا التحالف ما دفعوا من أموال ليبيا، لما كان كثيرا في استرداد كرامة ليبيا التي تُدنّس، وما نفقده من أرواح عزيزة علينا، يقول الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).
فمتى ننزع عن أنفسنا ثوب المذلة، ونعمل بما طلبه الله منا في قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)!
وفي هذا الوسط المتخاذل البائس، بقي حال أهل فبراير بهذا الأداء العاجز منهم كحال الأيتام على مائدة اللئام.
التوقفُ عندَ لعنِ مشروعِ الصخيراتِ، دونَ تقديمِ مشروعِ عملٍ قابلٍ للتنفيذِ؛ عجزٌ لا يُنتظر منه إلّا الإجهاز على ما بقي، إنْ كان بقيَ شيءٌ.
الذين يخالفون دار الإفتاء في هذا الشأن وإن كان منطلقُهم منطلقَ التمسك بالثوابت، فإني أُقدِّرُ تَمسُّكهم ، وأحرِصُ عليهِ كحرصِهم أو أشَدَّ، وأعلم أن منهم من قَدّم في سبيل هذه المبادئ كل ما يملك ولم يبخل بشي، ومكانةُ أمثال هؤلاء الثابتين في قلب كل غيور كبيرة، ولكنّ إنقاذ الوطن لا بد أن يكون أكبر.
تعلمنا أن الوقوف في وجهِ المنكرِ سُنَّتهُ التدرُّجُ، ولهُ أولوِيّاتٌ، لا يمكن للمصلح البصير أن يتجاوزها، فتاركُ الصلاةِ أو شاربُ الخمرِ، لا يُنهَى عن التركِ أو الشرب إذا أدَّى نَهيُهُ إلى أن يسبَّ الدّينَ، أو أن يقتلَ النفسَ المُحرّمة بغير حق، يقول الله تعالى في هذا المعنى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ).
وهذا التقيُّد والتدرُّج إجماعٌ في سنةِ الأمر بالمعروفِ والنّهيِ عنِ المنكرِ، لا اختلافَ عليهِ عندَ أهل التحقيق، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُدارِي مع مَن لا يحبُّهُم ولا يرضى طريقهم، ولا يداهنُهم، وفي الحديث: (إنَّا لنبشُّ في وجوهِ أقوامٍ وقُلوبُنا تلعنُهُم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو القدوةُ في الثباتِ على ما جاءَ به مِن مبادئِ الدّينِ، كان يتركُ ما يُحبُّهُ، ويُدارِي خصومَهُ؛ ليدفعَ الضّرَّ عن أصحابهِ، فوقتُ الضّعفِ في نظرِ القيادةِ ليسَ كوقتِ القوةِ، وما لَا يُدرَكُ كلّه لا يُتركُ قُلّه، أي قليله، والله تباركَ وتعالَى يقولُ: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
أول ما قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ تحالفَ مع اليهودِ، وكتبَ بينه وبينهم وثيقةً، عُرفت بوثيقةِ المدينةِ، وكان ممَّا جاءَ فيها: (وأنّه لم يأثمِ امرُؤٌ بحليفِهِ).
ومعناه: أنّ الآثامَ التي عليها حليفُك، مِن تفريطٍ أو تلاعبٍ أو خيانةٍ، لَا تضُرُّك، ما دمتَ لا تفعلُها، ولا تُقرُّها.
ومعناه أيضًا: أنّه لم يمنعْ – تشريعُ اليهودِ لأنفسِهم ما لم يأذنْ به الله – مِن التعاون معهم فيما فيهِ مصلحةٌ للمسلمين، وتعظيمٌ لحرماتِ الله تعالى.
فلو بقي أهلُ فبراير إلى آخر الدهر يلعنونَ الصخيرات، دونَ أن يقبلوا بسنة التدافع مع خصومهم لينتزعوا حقوقهم، ويشاركوا في مراكز النفوذ والسلطان والمال، فلن تُبنى ليبيا، ولن يكون لهم فيها موطئ قدم، فالذي عندهُ المالُ والسلطانُ وحدهُ هو الذي يقدرُ أن يَبنيَ وأنْ يُخربَ.
كلُّ خصومِ فبراير، دوليينَ ومحليّينَ، وإن اختلفتْ مشاربُهُم، اتفقوا على خطةِ عمل واحدةٍ في مواجهتها، إن كانَ بالسلاحِ فبالسلاح، أو بالتغلغلِ في مراكزِ القوةِ للفسادِ ونهبِ الأموال، أو بترسيخِ التبعيةِ لِما هو مستوردٌ، وطمس الهوية الوطنية لزعزعة الاستقرار لصالح المشروع الاستخباراتي الصهيوني في المنطقة – كلُّ القُوى تحالفَت إلَّا آل فبراير، فلا يزالونَ يومًا إلى يومٍ ينقسِمونَ، وهو ما أذهبَ ريحَهم.
لذا؛ فإنِّي أدعوهُم مرةً أخرَى على مختلفِ أطيافِهم؛ أنْ يتشاوروا ويتوافقوا على المشاركة في هذا الواقعِ المريرِ؛ ليُخفّفوا مِن وَطأتِهِ، برفعِ ظلمٍ عن مظلومٍ، أو استردادِ حقٍّ لمَهضومٍ، فإن المُشاركةَ التِي تؤدِّي إلى تحقيقِ هذا الهدفِ واجبةٌ على كلِّ مَن يقدرُ عليها؛ لاتفاقِ أهل العلم على أنَّ الضرَرَ يُزالُ بقدرِ الطاقةِ، وأنّ الميسورَ لا يسقطُ بالمَعسورِ، والشجاعةُ لاتخاذِ المواقفِ في السّلمِ، ليستْ بأقلّ شأنًا مِن الشجاعةِ في ميادينِ القتالِ؛ سُئل الشيخُ ابنُ تيميةَ – وهو مَن هو صلابةً في المبادئِ وشجاعةً في الحقِّ – سئل عمن وُلِّيَ ولاية من سلاطين الجَّوْر يَجْبي لهم فيها المكوس، ويأخذ أموال الناس، وهو يريد بتوليه أن يجتهد بكل ما يَقدر ليُسقط من الظلم ما يَقدر عليه، ولو تَرَك ورَفَع يده لبقي الظلمُ كما هو أو يزداد، فهل يجوز له أن يبقى في هذه الولاية، وأي الأمرين خير له: أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله، أم رَفْعُ يده مع بقاء الظلم وازدياده؟
فأجاب: الحمد لله، نعم، إذا كان مجتهدًا في العدل ورَفْع الظلم بحسب إمكانه، وولايتُه خيرٌ وأصلحُ للمسلمين من ولاية غيره، فبقاؤه أفضلُ مِن تركهِ، بل قد يكون بقاؤُه عليه واجبًا إذا لم يقمْ به غيرُه، فنشر العدل بحسب الإمكان ورَفْعُ الظلم بحسب الإمكان فرضٌ على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك، إذا لم يقم غيرُه في ذلك مقامَه، ولا يُطالَب والحالةُ هذه بما يعجز عنه مِن رفع الظلم. [مجموع الفتاوى:30/356].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
8 صفر 1441 هـ
الموافق 7 أكتوبر 2019 م