الشعورُ بالهزيمةِ مِن الداخلِ
الشعورُ بالهزيمةِ مِن الداخلِ
بسم الله الرحمن الرحيم
تدميرُ المدن التي تطلعت إلى الحرية في ثوراتِ الربيع العربي، الواحدةَ بعد الأخرى، وإسقاطُها على رؤوس ساكنيها، وضحايا حجمها بالملايين – بين قتيل وجريح ومهجَّر ملاحَق طريد، دون شفقة ولا رحمة – هو إجرام دولي، في مشروع صهيوني كبير، تبادلت الدول الكبرى أدوارَه، ونفذته بعض أدواتهم مِن بيننا، هدفه إذلالُ شعوب المنطقة، وقهرُها، وسلب ثرواتها، بحيث لا يقام لها دين، ولا تنهض لها دولة.
وهذا المشروع العدواني، وإن كان من الخطورة بما رأيناه يذهب بالملايين، ويدمر المدن؛ فإن الأخطر منه الإحباط، والهزيمة من الداخل، والاستسلام للعدو، وسيطرة الشعور بأنّه لا قِبَل لنا به، وأنّ من يدعو إلى مقاومته واهمٌ، لا بصيرة له بالأمور، ولا علم له بالسياسة، وهو الذي يدمر بلادَه حسب قولهم، ويغرر بالشباب، ويُلقي بهم إلى التهلكة.
وعبارات الاستسلام واليأس في هذا كثيرة، مثل قولهم:
“الدول الكبرى أو المجتمع الدولي حسم أمره في ليبيا، والأمر فيها منتهٍ، والوقوف في وجه هذه القوة العظمى عبث وانتحار، ولا يؤدي إلّا إلى المزيد مِن الدماء والتهجير والمعاناة، وهو من الإلقاء بالشباب إلى التهلكة”، هكذا يقولون!
وهذا الفهم انحرافٌ خطير في أصل من أصول الدين، يكادُ يُخرجُ كلمة الجهاد من قاموس الإسلام، يعطل أكثر مِن أربعين آية في كتاب الله تأمر بالجهاد، وهو ما يسعى إليه هذا المشروع المعادي للإسلام، فقد سبقَ وطالبتْ دولُهُ الكبرى البلادَ الإسلاميةَ وكرّرت الطلبَ، بأنّ عليها إنْ أرادت التخلص من الإرهابِ، أن تحذفَ آياتِ الجهاد مِن المقررات الدراسية.
وأولُ الغيث قطرة، فقد تكون الخطوةُ القادمةُ طلب حذفِها من المصحف؛ لأنهم لا يرونَ فرقًا بين الجهاد والإرهاب.
والدولُ العربية التي تسارع إلى التطبيع مع العدو في هذا المشروعِ، كالسعودية والإمارات، تجاوبت مع هذا المفهومِ للجهاد، وأدرجت فصائلَ المقاومةِ في فلسطين ونخبة من علماء المسلمين ضمن قوائم الإرهاب!
أقولُ لِمن يرى أنّ مقاومة المشروعِ الدولي – الذي يدمر عواصم المسلمين – إلقاءٌ بالنفس للتهلكةِ؛ بمقالتك هذه لقد ألقيت بنفسكَ إلى التهلكة!
ففي صحيحِ السنة – عند الترمذي وغيره – في سبب نزول قول تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال:
“إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا، وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ”.
وفي تاريخ الدعوة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والمسلمون نفر قليلٌ في مكة مستضعفون، كانت نفوسهم تتحفز إلى الجهاد، ولم يؤذن لهم فيه أول الأمر، لكن لما أخرجوهم من مكة، وهجَّرهم العدو من ديارهم، أنزل الله عليهم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، وفي أول معركة لهم ببدر، وهم على ضعفهم وقلتهم، رمتهم قريش بفلَذة أكبادها، وبعَددها وعتادها، فلم يقولوا: “لا قِبلَ لنا بها، والأمرُ محسوم!” بل مَلَكَ قلوبهم ما جاءَ بآخر آيةِ الإذن بالجهاد: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، وقوله: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وعندما تحزبت عليهم الأحزاب؛ (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، لم يقولوا: “القتالُ عبث، وإلقاء بالنفس إلى التهلكة”، بل كان حالهم كما أخبر القرآن: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
وقد واجهوا الفرس والروم، وكانتا في ذلك الوقت القوة العظمى التي تحكم الأرض، ولم يقولوا يومها وجيوش الأعداء تعدُّ بمئات الآلاف: “العدوُّ حَسم أمره”.
المسلمون في غزوة مؤتة كانوا ثلاثة آلاف ودعهم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في موجهة مائتي ألف من الروم وحلفائهم.
الذي كان يقول هذا القول “العدو حسم أمره”، هم المنافقون، كانوا يقولون: “دعوا هذا الرجلَ (أي يواجه ما لايقدر عليه) فإنّه هالكٌ”، يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله تعالى عن أقوالهم هذه في آيات كثيرة، قال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ)، وقال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، وقال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا)، أي: قالوا لإخوانهم المنافقين ارجعوا عن الحرب، إنا نخاف عليكم الهلاك، لكثرة العدو وتفوقه، وفي الرد عليهم قال الله للمسلمين: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وقد قال مقالةَ المنافقين من قبل أصحاب طالوت: (قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
والجهادُ الذي فرضَه الصهاينةُ على المسلمينَ، هو جهادُ دفعٍ لرد الصائل عن الديار والحُرمات، وتقرُّه كل قوانين الأرضِ، فضلًا عن شريعة السماء، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن قُتل دونَ مالهِ فهوَ شهيدٌ) وليس جهادَ طلب، ينظرُ فيه إلى قوة العدوِّ وعتادِه.
الشعور بالهزيمة من الداخلِ والاستسلام، جرَّأَ العدوَّ على ما لم يكنْ يحلمُ به، مِن المضيعةِ والهوانِ الذي أوصلَنا إليه، وكلَّما قدمنا شيئًا لإرضائه قال: هلْ من مزيدٍ!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
22 شوال 1439 هـ
الموافق 6 يوليو 2018 م