بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4708)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
رجلٌ قال لزوجته: “أنتِ حارمة”، وبعد سنة تقريبًا قال لها ذلك مرة أخرى، فاستفتى شيخًا، فأفتاه بأن زوجته بانت منه بينونةً صغرى، وأن عليه أن يعقد عليها عقدًا جديدًا، ففعل دون أن يستبرئها، ثم بعد فترة من الزمن حلف الزوج بالطلاق أنه لن يحضر خبزًا مرة أخرى، بقوله: “عليَّ الطلاق ما عاد جايبها”، وبعد شهرين تقريبًا أحضر الزوج معه خبزًا من منزل والدته في الدور الأرضي ليأكله، وبعد مدة اشترى الزوج خبزًا، وطلب من ابن عمه أن يحمله لبيت والدته، ففعل، فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالطلاق بلفظ: “أنتِ حارمة” يقع بائنًا بينونةً صغرى على المختار، وهو رواية عن مالك رحمه الله، قال القرطبي رحمه الله: “وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِزَوْجَتِهِ: “أَنْتِ عَليَّ حَرَامٌ” على ثمانية عشر قولا: … وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت، ورواه ابن خويز منداد عن مالك …” [الجامع لأحكام القرآن: 18/180]، وَسُئِلَ الْمَوَّاقُ عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: “فَنَحْنُ نُفْتِي بِالْبَيْنُونَةِ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا إِنْ كَانَ نَوَى الثَّلَاثَ” [المعيار المعرب: 4/244].
وإذا تمادى الزوج على وطء زوجته التي بانت منه بينونة صغرى، فلا يعقد عليها إلا بعد أن يستبرئها بثلاث حيضات، فإن عقد عليها قبل أن يستبرئها فالعقدُ فاسدٌ، يجب فسخه، سئل الشيخ عليش رحمه الله عمن تعرضّت لحق الله تعالى، ولم يعلم زوجها أنها ردة، ووَطِئها، فعقد له فقيه عليها بلا استبراء، وعمن قال لزوجته أنت خالصة، وأخبره عامي بعدم وقوع الطلاق، فوطئها، ثم أخبر فقيها فعقد له عليها بلا استبراء أيضًا، فهل العقد فاسد فيهما؟ فأجاب بما نصه: “نَعَمْ الْعَقْدُ فِيهِمَا فَاسِدٌ فَيُفْسَخُ، وَتَسْتَبْرِئُ مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ، وَبَعْدَ تَمَامِ الِاسْتِبْرَاءِ يَعْقِدُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ، وَفَسْخُهُ طَلَاقٌ لِلْخِلَافِ فِيهِ [أي وجوب الاستبراء] كَمَا تَقَدَّمَ فِي جَوَابِ مَنْ أَبْرَأَتْهُ” [فتح العلي المالك: 2/81].
وتعليق الزوج للطلاق على إحضار الخبز لازمٌ، وإن وقع بعد عقد فاسد؛ لوقوعه في نكاح مختلف فيه، قال الدسوقي رحمه الله: “… إذَا طَلَّقَ اخْتِيَارًا فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ الطَّلَاقُ” [الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/241] لكنه لم يقع؛ لأن القصد منه إحضاره لعائلته، لا لنفسه، ولا لبيت أمه، ويستمر تعليق الطلاق على إحضار الخبز، ويقع الطلاق بوقوعه، وهو إحضار الخبز لبيت عائلته.
وأما الولد الذي حصل من هذا الوطء الفاسد، فيُلحقُ بالزوج؛ لأن الوطء كان بشبهة، قال التسولي رحمه الله: “وَالْمَعْنَى أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ كَنِكَاحِ ذَاتِ مَحْرَمٍ أَوْ خَامِسَةٍ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ كَالْمُحْرِمِ، وَالشِّغَارِ إِنْ دُرِئَ فِيهِ الْحَدُّ عَنِ الزَّوْجِ بَعْدَ عِلْمِهِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَمُطْلَقًا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ يدْرَأُ الْحَدَّ، فَإِنَّهُ يُلْحَقُ فِيهِ الْوَلَدُ” [البهجة: 1/430].
عليه؛ فالزوج قد لزمته طلقتان، الأولى منهما بقوله لها: “أنتِ حارمة” أول مرة، وبه بانت منه زوجته بينونة صغرى، وبسبب البينونة لا يقع الطلاق بقوله لها: “أنتِ حارمة” بعد ذلك؛ لأنه لم يُصادف محلًّا، وبسبب بينونة المرأة منه في قوله لها في المرة الأولى أنت حارمة واستمراره بالتمادي على فراشها وجب على الزوج أن يستبرئ زوجته؛ من هذا الوطء الفاسد، قبل أن يعقد عليها، وبعقده عليها دون استبراء يصير العقد فاسدا، يجبُ فسخه؛ لأن العقد على المستبرأة فاسد كالعقد على المعتدّة، وفسخه طلاق، وتعدّ طلقة ثانية، فعلى الرجل إن أراد إرجاع زوجته أن يعقد عليها عقدًا جديدًا، بعد أن يستبرئها بثلاث حيضات، أو ثلاثة أشهر إن بلغت سن اليأس، وبذلك بقيت للزوج طلقة واحدةٌ فقط، تقع بوقوع المعلق عليه، وهو إحضار الخبز لبيت أسرته، أو بغير ذلك، وبوقوع الطلقة الأخيرة تبين منه زوجته بينونة كبرى، ولا تحل له إلا بعد زوج؛ لقول الله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]، ثم قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة: 230]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الرحمن بن حسين قدوع
حسن بن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
08//ربيع الآخر//1443هـ
14//11//2021م